عندما تتحدث أجهزة الاستخبارات الغربية عن شكل الشرق الأوسط الجديد وحدوده ومستقبله، فإنها تبوح فقط ببعض أسرار ما تخطط له دوائر صنع القرار في العواصم الغربية، وما يحاك للمنطقة على وقع الفوضى الخلاقة التي بشّرت بها، منذ نحو عقد من الزمن، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس، ووجدت صداها لاحقاً في ثورات الربيع العربي. ولكن عن أي شرق أوسط يتحدث هؤلاء، وأي مصير ينتظر المنطقة وأهلها؟ لا بد من العودة قليلاً إلى الوراء، للتذكير باتفاقية سايكس - بيكو عام 1916، التي قسمت المشرق العربي، وهو المعني هنا بالتغيير، إلى مناطق نفوذ بين الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وأتاحت بالتالي فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، وتنفيذ وعد بلفور بزرع الكيان الصهيوني على أرضها، لتعميق الانقسام في الوطن العربي وفصل مشرقه عن مغربه، ما يعني أن خرائط المنطقة وحدودها رسمت في الخارج، وأن الحرب العالمية الثانية لم تحدث تغييراً جوهرياً في الحدود والخرائط، لكنها أحدثت تعديلاً على صعيد رعاة المشروع الصهيوني، مع انتقال المركز الإمبريالي من لندن إلى نيويورك، وتراجع النفوذين الفرنسي والبريطاني لصالح الولايات المتحدة القوة العظمى الصاعدة آنذاك، وأدى إلى استقلال عدد من الدول العربية كلبنان وسوريا والعراق والأردن. وهنا لا بد من الاعتراف بحقيقتين: ظهور الدولة القطرية وتعمقها بديلاً للوحدة العربية، وفشل المشروع القومي العربي رغم الجهود والمحاولات العديدة التي بذلت في هذا المجال. وبطبيعة الحال لم يتوقف الغرب الإمبريالي لحظة واحدة عن مساعيه الرامية لإحداث المزيد من التفتيت والتشظي في المنطقة العربية لإبقائها في دائرة التبعية والاحتواء. ومن يقرأ كتاب خنجر إسرائيل لكارنجيا الذي وضع في خمسينات القرن الماضي، والذي تحدث عن تمزيق الوطن العربي إلى دويلات وممالك طائفية ومذهبية متناحرة، لن يجد اختلافاً كبيراً عما تحدثه الثورات العربية الراهنة، وبالتالي فإن ما تحدث عنه مدير الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه في مؤتمر جامعة جورج واشنطن الأمني قبل أيام، من أن الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وأن دولاً مثل العراق وسوريا لن تستعيد حدودها السابقة، لم يأت من فراغ، بقدر ما يؤشر إلى أن هناك خرائط وحدوداً جديدة ترسم للمنطقة. ولم تكن وجهة نظر باجوليه بعيدة عن رؤية نظيره الأمريكي مدير السي آي إيه جون برينان الذي اعتبر أن من ينظر إلى الدمار في سوريا وليبيا والعراق واليمن يصعب عليه أن يتخيل وجود حكومة مركزية في هذه الدول قادرة على ممارسة سيطرة أو سلطة على حدودها، واتفق مع نظيره الفرنسي في استحالة الحل العسكري في أي من هذه الدول. ولكن لماذا يصرّ الغرب على التحكم بمصيرنا ومستقبلنا، والى متى.. ولماذا لا يريد الاعتراف بأن هناك معادلة أخرى تتبلور في المنطقة، جوهرها المقاومة، وتستند إلى بعد كوني جديد يجعل من الصعب على عواصم الغرب تقرير مصير المنطقة وحدها. فبالنسبة لنا الشرق الأوسط الذي نعرفه سيبقى هو ذاته، ولن يبقى بعد كل هذا الخراب والدمار رهيناً لما يحاك في أروقة الاستخبارات الغربية. younis898@yahoo.com