مكة المكرمة، المدينة المنورة واس دعا إماما وخطيبا المسجدين الحرام والنبوي الشيخان الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد و عبدالباري الثبيتي، إلى تطهير النفس من أدران الجاهلية وأمراضها ، وتقوِّيم السلوك ليستقيم على الفطرة السوية والرابطة بين أهل الإسلام هي رابطة الدين، وأخوةُ الإيمان، ولها معالمها من حسن المعتقد، والمحبة، والسرور، وحب الخير للناس، والفرحِ به، واجتنابِ ما يكدر على ذلك ويشوش عليه، من الحسد، والشحناء، والتهاجر، والتباغض، والسباب، والتنابز بالألقاب والناصحون من عباد الله المحبون لخلق الله أهلُ أدب، ورحمة، وحب، ومودة، وصدق، ووفاء، مشيرين إلى إن إنسانية الإنسان لا تصح ولا تكون لإنسانيته قيمة حتى يتحرر العقل من الظلال والفكر من الخرافة والدجل، ومن ذلك ما يقع من سحر وتنجيم ومخاطبة أرواح وقراءة كف وتنوين، فهذه السلوكيات تدمر إنسانية الإنسان وتفسد على المسلم عقيدته وخلقه وتلغي العقل والمنطق، والذين يمارسون الحرق والتفجير وقتل المصلين في المساجد قد طمست إنسانيتهم وأظلمت بصائرهم والذين يقتحمون ويدنسون بأجسادهم واحذيتهم مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتلون في ساحاته النساء والأطفال والرجال، قد ماتت ضمائرهم وانسلخت انسانيتهم بكل معانيها وصورها. وقال إمام وخطيب المسجد الحرام في خطبة اليوم، إن قوارع الأيام داهية، فهل من أذن لعظاتها واعية؟ ونوازل الحُمام فاجعة، فهل القلوب لوقعتها مراعية؟ ومقادير الآجال جارية، فهل النفوس إلى الخيرات ساعية؟ أين الآباء الأكابر؟ وأين الأبناء الأصاغر، وأين الصديق المعاشر؟ وأين الغريب وأين القريب؟ وأين الغائب وأين الحاضر؟ لقد عثرت بالجميع العواثر، ودارت على أصحابها الدوائر : فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) . وأضاف بقوله، معاشر الأخوة : وقد استوعبت الشريعة في شمولها وعلاجها كلَّ أمراض النفوس ومعايبها أقوالا، وأفعالا، ومشاعر، وانفعالات، وإن في مستجدات العصر وتقنايته ما وسع ذلك كله، ابتلاء وعلاجا. ومضى يقول إن هناك ثمة خلق ذميم، وسلوك شائن، يدل على نفس غير سوية، وقلبٍ مدخول، يكاد يخلو من الحب، والمودة، والعطف وحب الخير ذلكم عباد الله هو خلق الشماتة، وغالبا ما يقترن به مظاهر كريهة من السخرية، والهمز، والغمز، واللمز، وألوان الاستهزاء، قولا، وفعلا، وإشارة- عياذاً بالله -، أن الشماتة حفظكم الله ووقاكم وصف، ولقب، و لفظ، فيه تنقُّصٌ، أو حطُّ مكانة، أو احتقارُ، أو ذمٌ، أو طعنٌ، أو تعدٍ على كرامة والشماتة فرحُ ببلية من تعاديه، والسرورُ بما يكره من تجافيه. يقول ابن بطال : شماتة الأعداء ما ينكأ القلب، وتبلغ به النفس أشد مبلغ . وهي لا تحصل إلا من عداوة، أو حسد، بل قال أهل الحكمة : إن الحسد والشماتة متلازمان، فالحاسد إذا رأى نعمة بهت، وإذا رأى عثرة شمت . وخاطب فضيلته المبتلى بالشماتة قائلا عافاك الله من هذا الداء وهداك كأنك تزهو بكمالك، وتفاخر بجمالك، وتغفل عن موادعة الأيام لك، وتظن أن هذا المبتلى، لم يبتل بما ابتلى به إلا على كرامة في نفسك، أو بسبب إجابة دعوة منك أو من غيرك، فهذه تزكية، وعجب، وغرور، وغفلة، بل قد يكون استدراجا ومكرا عياذ بالله أما علمت أن الشماتة قد تكون انعكاساً لأمراض نفسية تدل على عدم الثقة، مع الإحساس بالفشل، فتسلي نفسك بهذا الخلق الذميم الشامت، محروم من المحامد الجميلة، والمسالك الراقية، والشعور الإنساني النبيل . وزاد يقول إن الشامت لا يفرح بمصيبة غيره إلا من لؤم طبعه، بل يقرر أهل العلم أن الشماتة من أخلاق أهل النفاق، فقد قال عز شأنه في وصف المنافقين: إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط ). وقال إمام و خطيب المسجد الحرام معاشر المسلمين: لقد استعاذ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الشماتة وسوئها كما في الحديث الصحيح : اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء، ودرك الشقا، وشماتة الأعداء . وقد قال هارون لأخيه موسى عليهما السلام : كما في التنزيل العزيز : ولا تشمت بي الأعداء أي لا تُفْرحهم بمصيبتي يقول الشوكاني رحمه الله : استعاذ صلى الله عليه وسلم من شماتة الأعداء، وأمر بالاستعاذة منها، لعظم موقعها، وشدة تأثيرها في الأنفس البشرية، ونفور طباع الناس منها، وقد يتسبب عمقُ ذلك تعاظمَ العداوة المفضية إلى استحلال ما حرم الله، ويقول المناوي رحمه الله : وإنما حسن الدعاء يدفع شماتة الأعداء لأن من له صيت عند الناس وتأمل وجد نفسه كمن يمشي على حبل معلق والأقران والحساد ينظرون، وينتظرون متى ينزلق . وأردف يقول فيا عبدالله : لا تشمت بأخيك فيعافيه الله ويبتليك، ولكن خذ العبرة، فعن واثلة بن الاسقع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك . لا تشمت بأخيك مهما صغر شأنه، وظهر عيبه، وبان نقصه في أمر الدين أو الدنيا، فإن الشماتة تجلب البلاء والابتلاء، ولكن تضرع إلى الله مستعينا به خائفا مستخفيا، مشفقا على نفسك وعلى أخيك وقل : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به، وفضلني على كثير من خلق تفضيلا . ومثل هذا الدعاء لو تأملت حفظك الله لعلمت أن المقصود به الوقايةُ ، والحذرُ من الوقوع في الشماتة، والاستهزاءِ، والسخرية، والانتقاصِ من إخوانك. وواصل فضيلته يقول معاشر المسلمين: الزمن قُلبَّ، والأيام دول، فكم من غني افتقر، وفقير اغتنى، وعزيز ذل، وذليل عز، ووضيع ارتفع، ورفيع اتضع، وقوي ضعف، وضعيف قوي، وسليم ابتلى، ومبتلى عوفي . والدهر حين يجر بكلكله على قوم فإنه ينيخ على آخرين، وسيلقى الشامتون كما لقي غيرهم يقول ابن مسعود رضي الله عنه: والله لو أن أحداً عير رجلاً رضع من كلبة لرضع هو من كلبة وورد عن عمر رضي الله عنه : والله لو عيرت امرأة حبلي لخشيت أن أحمل ويقول إسماعيل الهروي : أي عيب عيرت به أخاك فهو صائر إليك ويقول الحسن البصري رحمه الله : أدركت أقواما لم تكن لهم عيوب فتكلموا في عيوب الناس، فأحدث الله لهم عيوبا، وأدركت أقواماً كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم . كيف وقد جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تؤذو عباد الله، ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإن من طلب عورت أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته رواه أحمد . ويقول إبراهيم النخعي رحمه الله : أنى لأرى الشيء أكرهه فما يمنعني أن أتكلم به الا مخافة أن ابتلى به . ويقول ابن القيم رحمه الله : ما من عبد يعيب على أخيه ذنبا الا وابتلى به، فإذا بلغك عن فلان سيئة، فقل من كل قلبك غفر الله لنا وله . وحذر الشيخ بن حميد المسلمين قائلا يا عبدالله : لا تراقب الناس، ولا تتبع عوراتهم، ولا تكشف سترهم، ولا تتجسس عليهم، اشتغل بنفسك، وأصلح عيوبك، فلن تُسأل بين يدي ربك إلا عن نفسك، والله أرحم بك وبهم منك ومن أنفسهم بل إن المؤمن الصادق المخلص يحب أن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به على حد قوله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه رواه البخاري ويقول ابن رجب رحمه الله : إنما يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه إذا سلم من الحسد ، والغل، والغش، والحقد . وأضاف فضيلته يقول إنما أنت أيها المبتلى بالشامتين فلا تحزن ممن يشمت بك، أو يسخر، واستحضر مواقف الأقوام من أنبيائهم حين سخروا منهم واستهزؤا بهم فكان النصر والعلو وقد قال عز شأنه (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون)، وقل لهم : صبرا، فإن أيام الدنيا دوارة، والأحوال متغيرات متقلبات، بل إن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يقول : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد، غَمُّ، وإثم، ونَفَسٌ متتابع . ودعا فضيلته أهل الإيمان أن يدعوا الأحقاد، والأضغان، وأن يتجنبوا الشماتة بإخوانهم، فذلك مجلبة التفرق، والتنازع، والتنابز بالألقاب، والبغضاء. وتسائل كيف تصدر الشماتة من مسلم وهو يقول في ورده كل صباح : اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر ، فحق أن يعكس هذا الذكر صفاءَ قلب المؤمن، ورحمتَه، ومودتَه للخلق كلهم، فضلا أن يحب أن يحيق بالناس كرب، أو بلاء، أو تعاسة، أو مكروه، ولا تجتمع الرحمة الغامرة مع القسوة الشامتة . وفي المدينة المنورة تحدث إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ عبدالباري الثبيتي، عن الإنسانية وسبل تحقيقها، موصيا فضيلته بتقوى الله عز وجل. وقال في خطبة الجمعة إن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم وجعل في أعماقه اخلاقا ومشاعر وأذواقا، والذين يستشعرون مقام الروح والقلب والعاطفة أكثر تحقيقا لمعاني الإنسانية التي تستمد منهجها وقيمها من الإسلام، حما الإسلام الإنسانية بإقامة الحدود الشرعية التي من أهم مقاصدها المحافظة على حقوق الأفراد وهذبها وعنا بها في إطار منهج القرآن، وكلما اقترب الإنسان من ربه صلاة وتعبدا ودعاء، سمت إنسانيته، قال تعالى (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) وقال تعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر). وأكد أن الإسلام ينشد كمال الإنسانية بإحياء مراقبة الله، وإذا ساس الإنسان نفسة وجاهدها انقادت له وأشرقت إنسانيته، مبينا أن الإنسانية التي زكاها الإسلام تظم جميع الأجناس والألوان ليتعارف الناس ويتألفوا ويعيشوا إخوانا وليقوموا بواجب الخلافة على الأرض قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى* وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا * إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ* إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). وبين فضيلته أن من مقتضيات الإنسانية في الإسلام التعاون والتكافل وبناء معان الحب والرحمة والتسامح وهجر الحقد والكبر والانتقام ومنع الظلم ومساندة المحتاج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وكونوا عباد الله إخوانا )، والقرآن الكريم يحيي معان الإنسانية الفاضلة ويرسخ كرامة الإنسان كما يحمي العواطف الإنسانية من الانحراف عن أهدافها ويحصنها من الصراع البغيض، الذي يتنافي مع الإنسانية النقية ويجعلها تبصر الحق وتعرف الرشد وتحكم العقل وتنشد العدل، فالقرآن يهدف لرقي الإنسانية وأن لا تهبط فيها نزوات الجسد ودواعي الغريزة إلى الحد الذي يصبح الناس فيه عبيدا لشهواتهم وملذاتهم، كما يرتقي بالحياة حتى لا تتحول إلى صراع بغيض وحروب مدمرة تمتهن فيها الإنسانية. وأوضح الشيخ الثبيتي أن الإنسانية في الإسلام بلغت شأنا عظيما ومرتبة سامقة في أهدافها ووسائلها، ومن ذلك الإحسان إلى الوالدين بالتكريم والنفقة وخفض الجناح وفي رعاية المرأة وأداء حقوقها، إما زوجا أو بنتا أو أختا، مشيرا إلى أن الإنسانية تنعدم وتطمس معالمها بالاعتداء على الخالق في خلقة وفي التحليل والتحريم لقوله تعالى (خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ)، وقد تبطر الإنسانية وتستبد عندما تصل إلى الرفاة وتغدق عليها النعم والخيرات قال الله تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)، مما يفضي هذا الانحراف إلى الطغيان والاستبداد إلى العقوبة والبلايا. وختم إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ عبدالباري الثبيتي خطبته مشيرا إلى أن المسلمين يحملون رسالة عظيمة في العالم للارتقاء بقيم الإنسانية ومواجهة تحديتها، وتبرز معاني الإنسانية في قادة هذه البلاد وأهلها للدور الإنساني الكبير الداعم للعمل الإغاثي في شتى بقاع الأرض ومد يد العون لكل محتاج بإنسانية صادقة ومشاعر دافئة.