×
محافظة المدينة المنورة

فيديو | مقطع متداول .. شابان يقفزان في المياه من الطابق الثاني بـ “الراشد مول” أمام العائلات

صورة الخبر

لا يمكن مقاربة السيكولوجيا التحليلية ليونغ في معزل عن المدرسة الفرويدية التي انتمى إليها مدة من الزمان، ثم حاول القطع معها ليؤسس نظريته الخاصة عن النفس والسلوك البشريين. ولقد كان نشره لبحثه عن «تحولات ورموز الليبيدو»، الذي وضعه خلال سنتي 1911 و1912، إعلانا فعليا للقطيعة مع فرويد. وفي سياق هذه الرغبة في القطع مع الإرث الفرويدي، نجد يونغ يحرص، منذ بواكير أعماله، على تمييز نسقه السيكولوجي، وعلى ضبط مدلولات مفاهيمه، حتى لا تلتبس من حيث الدلالة بالمفاهيم الفرويدية والرؤى السيكولوجية المتداولة. إذ منذ 1921، سيحرص في كتابه «أنماط سيكولوجية»، على ختم الكتاب بمعجم يستجمع فيه مفاهيمه المركزية. وهذا الهاجس، هاجس القطع والانفصال عن الفرويدية، نجده يرافق يونغ في مختلف لحظات مسيرته الفكرية اللاحقة أيضا. إذ نشر في سنة 1942 كتابه «سيكولوجية اللاوعي»، حيث قدم نقدا شديد اللهجة لأعمال فرويد. لكن يمكن القول إنه على الرغم من محاولة القطع مع أستاذه، فقد ظل يونغ مشدودا إليه بأكثر من رباط مفهومي وتصوري ومنهجي. وأول هذه المفاهيم المشتركة، هو مفهوم اللاوعي الذي سيظل محور رؤيته إلى الكينونة الإنسانية وتعبيراتها السلوكية والثقافية. بل لعلي أقول، إن هذا العود المتكرر لنقد فرويد، مؤشر ضمني على شدة الارتباط به! والواقع أن النظر في الانشقاقات الكبرى التي شهدتها المدرسة الفرويدية، بفعل انفصال أبرز تلامذة فرويد عنه، مثل أدلر، وزوندي، ويونغ وإيرهم، سيخلص ولا بد، إلى أن هؤلاء المنشقين حملوا معهم تقريبا نفس الجهاز المفاهيمي الذي اشتغلوا به مع أستاذهم. ففيما يخص مفهوم اللاوعي، لا نجد أحدا من هؤلاء الثلاثة الكبار، المنشقين عن فرويد، قد تخطاه فعليا، بل كل ما قاموا به هو توسيع الحقل الدلالي للمفهوم، ودليلي على ذلك أن زوندي سيعوض مفهوم اللاوعي الفرويدي الذي له دلالة فردية شخصية بـ«اللاوعي العائلي»، مركزا بذلك، على التركيبة الوراثية التربوية للشخص داخل وسطه العائلي؛ بينما سيذهب يونغ إلى توسيع أشمل متحدثا عن وجود لاوعي جمعي داخل كل منا. ويونغ بتوكيده على مقولة اللاوعي الجمعي، لا يرفض مقولة اللاوعي الفردي الذي ركز عليه سيغموند فرويد، بل يستهدف استكماله وتوسيعه. ولقد خصص يونغ في كتابه «جدل الأنا اللاوعي» الصادر سنة 1928، ويعد تطويرا لمحاضرته «بنية اللاوعي» التي ألقاها سنة 1916، مساحة كبيرة لبلورة تمييز بين اللاوعي الفردي واللاوعي الجمعي، حيث يعتقد أن ثمة نوعين من اللاوعي: لاوعي شخصي فردي، هو مخزون الخبرة الشخصية المكبوتة. ولاوعي جمعي، هو مخزون أثري وأعمق، حيث يحتوي الخبرة البشرية التي نتجت عبر تراكم تاريخي طويل، بكل أنساق معتقداته وأساطيره وعوائده. وهو بذلك لا يستبعد اللاوعي الفردي الذي جاء به فرويد، بل يضيف عليه ولا ينفيه. فاللاوعي الجمعي – حسب يونغ - يمثل مخزونا هائلا من الخبرات الإنسانية الموروثة والمستبطنة في كل فرد منا. ومن ثم ليس صحيحا أن لاوعي الكائن الإنساني الفردي، هو فقط، جماع تجربته كفرد. بل فيه، أيضا، خبرات النوع الإنساني ككل، بكامل مخزونه من الأساطير والعقائد والتقاليد والعوائد المعرفية والسلوكية التي تبلورت طيلة آلاف السنين. ومحورية اللاوعي الجمعي في فكر يونغ ونزوعه نحو بحث المعتقدات الدينية، جعلاه شديد الاهتمام بالأديان وخاصة الديانة البوذية. كما كان مكثرا من التأمل في النصوص الدينية الكبرى، بل وجدناه يخصص للقرآن الكريم وقفة خاصة، حيث سيحلل في كتابه «النفس والهو»، سورة الكهف، مركزا بشكل خاص، على قصة الخضر مع موسى. ويعتقد يونغ، أن النفس الفردية هي في مستوى لاوعيها، تختزن خبرة البشرية بأكملها. بل حتى دراسته لحالة الآنسة ميلر، في كتابه «رموز الليبيدو»، تكشف عن هذا النهج الفكري الموسع في مقاربة النفس الفردية، حيث نلاحظ الغوص في الأساطير والديانات، من أجل فهم رؤية ميلر لمفهوم البطل. وللتوكيد على وجود اللاوعي الجمعي، قام يونغ بأبحاث إثنوغرافية ميدانية، في المكسيك وكينيا وأريزونا، حاول فيها أن يستجمع أوفر مقدار من المخزون الثقافي لهذه القبائل والشعوب، ثم درسه بمنظور مقارن مفككا رموزه، ليخلص إلى ما سينتهي إليه الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس، وهو وجود تشابه كبير على مستوى الأساطير، الأمر الذي جعله ينظر إلى ذلك بوصفه دليلا على وجود اللاوعي الجمعي المشترك. بيد أن هذا المشترك المفاهيمي – مفهوم اللاوعي - بين يونغ وفرويد لا يعني أن ثمة تماثلا بين النسقين النظريين السيكولوجيين، بل ثمة اختلافات كثيرة. وجوهر الخلاف الذي سيدفعه إلى القطع مع أستاذه فرويد، هو دور العامل الجنسي. إذ لم يوافق يونغ على الرؤية الفرويدية الإطلاقية إلى الجنس في تشكيل الشخصية الإنسانية، ولا في اعتماده كميثودولوجية لتحليل الحضارة والمنتجات الثقافية للإنسان، ومن جملتها المنتج الفني. لذا بدل التحليل النفسي الفرويدي القائم على مقولة الليبيدو، أسس يونغ لعلم نفس تحليلي جديد ينزع نحو الأعماق الجمعية للاوعي. وعلى مستوى المقاربة التحليلية للفرد، رفض يونغ الرؤية الفرويدية التي تجعل دور الجنس حاضرا منذ سنوات الطفولة الأولى، الذي سيخلص من بعد، إلى تكوين عقدة أوديب وإلكترا، إذ بدل هذا التصور الجنسي، يرى يونغ أنه حتى السنة الخامسة من العمر، فإن الغريزة المهيمنة على الطفل ليست غريزة الجنس، كما يزعم فرويد، بل هي غريزة التغذية. وحتى على المستوى العام، لا يرى يونغ أن الغريزة المحددة للشخصية الإنسانية هي غريزة الجنس، ولا غريزة القوة كما يقول آدلر، بل هي غريزة الحياة بكامل أبعادها. كما أن اللاوعي الذي اعتمده فرويد منطلقا لمقاربة الشخصية ومنتجاتها الثقافية، مفهوم لا يخلو من محدودية وفقر. فهو لا يستوعب الأبعاد الإنسانية في عمقها وامتدادها الفردي والجماعي؛ لذا اقترح يونغ مفهومه البديل القائم على النظر إلى الفرد الإنساني بوصفه حاملا لمحصول التجربة الإنسانية الجمعية. وفي كثير من نصوصه، يكشف يونغ أن نقده لمقولة الجنس عند فرويد، كان نتاج ملحوظات إكلينيكية. «فأثناء علاجه للشيزوفرينيا، اصطدم بحالات من تمزق نفسية المريض، لم يكن بالإمكان تفسيرها بانفعالات الفرد الجنسية الطفولية، وبالتالي، لم تدخل ضمن التصورات الفرويدية حول المشروطية الجنسية للسلوك». لهذا فإن يونغ، على الرغم من استعماله لمفهوم الليبيدو، فسيحرص على التوسع في معناه وعدم تركه بدلالته الفرويدية التي اقتصرت على المعنى الجنسي. يقول فاليري ليبين: «يكتسب مفهوم الليبيدو تفسيرا موسعا لدى يونغ. فهو يعني بالليبيدو، الطاقة النفسية التي تحدد شدة العمليات النفسية الجارية في نفس الإنسان. ولا يربط يونغ هذه الطاقة بالقوة النفسية الملموسة – المحددة، المشروطة مثلا، بالرغبات الجنسية، كما هو الأمر لدى فرويد، بل بالبنية النفسية الداخلية التي تحدد طابع النشاط النفسي عند الإنسان». كما أن ثمة فارقا هاما، حيث إن الغرائز اللاواعية ينظر إليها فرويد وفق رؤية بيولوجية، بينما يتعامل معها يونغ بوصفها رموزا ذات حمولات نفسية وثقافية. كما أن اختزال فرويد لتطور الشخصية في السنوات الست الأولى من العمر، هو حسب يونغ، اختزال خاطئ لصيرورة تشكيلها وتطورها، يؤدي ولا بد، إلى اختلال فهم الفرد. كما ينعكس، أيضا، على الرؤية العلاجية ويعوق نجاحها؛ فليست الأمراض العصابية كلها نتاج إشكالات حادثة في لحظة الطفولة، كما يزعم فرويد. بل إن هذا ينقص إدراكنا الصحيح للحياة الإنسانية، حيث يتغافل عن بعدين زمانيين هامين في تشكيلها، وهما الحاضر والمستقبل.