يصعب أن نعثر، في هذه المرحلة المضطربة الصاخبة، على شخصية قادرة على تحقيق إجماع عالمي حول تجربتها وتاريخها، خصوصاً في الحقل السياسي. في الفنون والرياضة والغناء قد يكون الأمر سهلاً، بيد أن السياسة، التي تعرف بفن الدهاء، تخلق، غالباً، انقساماً وتبايناً. لكن المناضل الأفريقي نيلسون مانديلا يكاد يكون استثناء في هذا السياق، فقد عبّرت شعوب العالم قاطبة عن حزنها لرحيل هذا الرمز، وضجت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بصور وتعليقات ومقاطع فيديو تستعيد محطات في مسيرة هذا الرجل الذي قرن القول بالفعل، فلم يكتفِ بإلقاء الخطب والوعود الرنانة، كما يفعل السياسيون من أصحاب الياقات البِيض، بل أمضى 27 عاماً من عمره وراء القضبان، فضلاً عن أن نضاله، وعلى رغم الدروب الوعرة، حقق هدفه المنشود، إذ أنهى سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، وفوق كل ذلك حاز جائزة نوبل للسلام كدلالة على تمسكه بالكفاح السلمي وصبره وجلده حتى حقق ما يطمح إليه. ومثلما أن الصحافة المقروءة والمسموعة والشبكة العنكبوتية قد تعاطت مع خبر رحيل مانديلا بكثير من الاهتمام، فإن كاميرات الفضائيات، من جانبها، وجّهت عدستها إلى جنوب أفريقيا، وراحت تبث تقارير وصوراً وشهادات، وقامت بتغطية خبر الرحيل على نحو واسع، بل رصدت تاريخاً طويلاً حافلاً بالمحن والمصاعب والآلام. قنوات من مختلف المشارب واللغات والجغرافيات اجتهدت في استعادة صفحات من سيرة هذا الزعيم السياسي، وبثت تقارير اختلفت في المضامين. لكنها أجمعت على نزاهة الرجل ومثابرته وتشبثه بتحقيق الحرية لشعبه، حتى أصبح رمزاً للشعوب المقهورة المضطهدة ليس في قارته أفريقيا فحسب، بل في كل بقاع العالم. مانديلا، ووفقاً للصورة التي رسمتها الفضائيات، لم يكن مجرد سياسي نجح في تحقيق أماني شعبه، بل غدا عنواناً لكل القيم الإنسانية النبيلة، ومثالاً ناجحاً لكل مقهور أو مضطهد يتطلع إلى الحرية والانعتاق، هو الذي تمكن من أن يؤسس لمدرسة أو لنهج في النضال، وقدم دروساً مفعمة بالمعاني السامية وبالتسامح والعيش المشترك ونبذ التطرف والإقصاء والإلغاء. ولم تغفل التلفزة عن مستوى التطور الذي وصلت إليه جنوب أفريقيا، فإلى جانب التسوية السياسية التاريخية، حققت قفزات اقتصادية وتنموية لافتة في القارة السمراء، ولعل تنظيم المونديال العالمي لكرة القدم 2010 فيها برهن على أن هذا البلد الذي انهمك بالنزاعات السياسية لعقود، تجاوز الصعوبات، وجند الإمكانات المتوافرة لتحقيق تقدم في كل الميادين. كل ذلك وغيره لا بد من أن ينسب إلى شخص صحح المسار السياسي في بلده، وقدم خدمات جليلة لشعبه، لذلك كان خبر رحيله مؤثراً، كما كان مادة فضائية رائعة زينها هو بوجهه الطفولي الأسمر، الوجه الذي سيعيش طويلاً في الذاكرة، في وقت تتحول تجربته إلى منارة تهتدي بها كل الشعوب التي تتطلع إلى الحرية.