ربّما كان من المبالغة والتزيّد، أو من باب طلب المستحيل، أن تُسَاءَلَ الثورات والانتفاضات - التي اندلعت في البلاد العربية منذ الأسابيع الأخيرة من نهاية عام 2010- عمّا إذا كانت قد أنجزتِ التغيير، أو أفضت إلى التغيير، الذي يحقّق أهدافاً تاريخية كبرى مثل الثورة الاجتماعية أوالديمقراطية. التغيير مفهومٌ نسبيّ وينبغي تعيينه، بدقةٍ نظرية، وفق قاعدةٍ تاريخية، مناسِبة سليمة، ترى إلى جملة الشروط التي يجري فيها ذلك التغيير، وإلى ممكناته ومستَطَاعاته الفعلية، وليس وفق نموذجية معيارية (افتراضية) لما ينبغي أن يكون عليه وأن ينتهي إليه. وقد يكون الحامل على الالتباس في استخدام هذا المفهوم، لوصف ما جرى ويجري، أنّ القَوْمَ عَنَوا به أن الربيع العربي محطة تاريخية واعدة بتحقيق ما أخفقت في تحقيقه تجاربُ حركية وشعبية سابقة: الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، الدولة الوطنية الحديثة (دولة الحق والقانون)، الدولة الإسلامية (دولة الشريعة أو دولة الخلافة)... هكذا أُسْقِط على تلك الثورات والانتفاضات والحروب الداخلية من المهمات الجسام ما تعجز هي- ذاتياً وموضوعياً - عن حمله لتواضُع إمكاناتها، من جهة، ولاستباحةِ داخلها أمام تأثيراتٍ واستخداماتٍ متنوعةٍ من خارج: من جهة أخرى. النتيجة أن الاصطدام العامّ بالمآلات الدراماتيكية - المجافية للرغبات - التي إليها آلت حركات الربيع العربي، والاعتقاد المتواتر بأنها من فعلٍ خارجي أراد بها الشرّ، أو من فعلِ نُظُمٍ داخلية سَعَت من جهتها في الإفشال لوقف امتداد الزلزال إلى نواحيها، أو من فعلِ ثورةٍ مضادّة نظَّمتها الفلول لاستعادة ما فقدته على حين غرّة...، ولَّد مثل هذا الشعور الجمْعي العارم، الذي نشهده ونستشعره، بالصدمة والخيبة واليأس والسوداوية. هكذا انتقل المزاج العام انتقالته الفجائية في بحر سنوات معدودات - من الحماسة للتغيير، بعنفها وعنفوانها اللاعقلانيَّيْن، إلى اليأس من التغيير: الممزوج بانكساريةٍ نفسية شديدةِ الوطأة. كيف حصل مثل ذلك الانتقال الدراماتيكي ولماذا حصل؟ كيف أمكن لتلك الشحنة العالية من الحرارة في إرادة التغيير أن تنضب سريعاً وتخمد فتخلي المكان لمشاعر المرارة والحسرة؟ وما علاقة ذلك كلّه بطريقة وعي مسألة التغيير؟ لذلك الانتقال - بل التحوّل - ما يفسّره من دون أن يبرِّره. ومما يفسّره عاملان: نفسيّ وثقافي (معرفي)، مترابطان ولكننا نعزلهما عن بعضٍ لضرورات منهجية. ولنبدأ بالعامل النفسي. كان المزاج الجمْعي العربي، قبل ثورة تونس، متعكِّراً غاية، ومزدحماً بمشاعر الحبوط والانكسار نتيجة ما خذَّلَتْه به معطياتُ واقعٍ بَدَا مريضاً ومَرَضياً، الاستبداد والفساد يستشريان، والفقر والحرمان والتهميش الاجتماعي تترسَّخ ظواهره وتزداد انتشاراً، والكرامةُ الوطنية والإنسانيةُ تُمْتَهن وتُمَرَّغ في الأوحال، ولا أفق في آخر النفق يضيء، وليس من معارضات يُعوَّل عليها فتجذب الناس إلى السياسة والشأن العام، وتعيد إلى الناس ثقتهم بإرادتهم وأملهم في تغيير ممكن... الخ. في هذا المناخ السياسي والنفسي السوداوي، اندلعت أحداث الانتفاضة في تونس، وما هي إلاّ أسابيع أربعة، حتى كان نظام زين العابدين بن علي يتهاوى على غير توقّع. لم يكتشف المُحْبَطون أنّ كلَّ شيء باتَ، فجأةً، ممكناً وفي المتناول، وأنّ ما كان في حكم الممتنع - بل المستحيل - أصبح في حكم المُتاح. ولمّا كانت أمّ المشكلات والبلايا هي الاستبداد والفساد خُيِّل إلى كثيرين أن الأفق سالكٌ أمام الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كأنما للاستبداد والفساد مظهرٌ حصْريّ، وعنوان رسمي يَتجسّدان فيهما (هي النخبة الحاكمة)، وكأن من سيأتي بعدها لن يكون مثلها، وكأنهما (الاستبداد والفساد) رجلٌ أو رجال متحلقون حوله، وليس نظاماً اجتماعياً- سياسياً. المهم في الأمر أن انعطافة مزاجية حصلت، على نحوٍ حادّ، من الأقصى إلى الأقصى: من حال اليأس والإحباط والخيبة وفقدان الشعور بالمستقبل، بما يساوقها ويقترن بها من سلبية وعدمية، إلى حالٍ نقيض من الاستبشار والثقة المطلقة بالذات والوهم بإمكان تذليل المستحيلات وإحلال الرغبة محلّ الممكن، مع ما يلازم ذلك من شعورٍ انتصاري ومن ميْلٍ إلى رفع سقوف المطالب والتوقعات. ومن آكَدِ الأمور أن هذا الانتقال السيكولوجي من مزاج سلبي ومُحجِم إلى مزاجٍ إيجابي ومُقْدِم، لا يترجم نفسه دائماً - وخاصةً في مثل هذه الحال - انتقالاً في الوعي والفكر من النكوص إلى اقتحام الآفاق، ومن الانفعال إلى الفعالية. هكذا، ما إن بدأت الثورات العربية تُفصح عن الحدود المتواضعة لمستَطاعاتها، فلا تَعِدُ بأكثر ممّا هو ممكن (في مصر وتونس خاصة)، وما إن بدأت تكشف عن وجوهٍ من الشعور بالمخافة العامّة ممّا يتربَّص بمصير الشعوب والأوطان، الغارقة في الحروب الداخلية والفوضى وانعدام الأمن والاستقرار (خاصةً في ليبيا وسوريا والعراق واليمن)، حتى انطلقت - من جديد- مشاعر الخيبة والمرارة لتزحف على النفوس. وقد يُخشى، فعلاً، من أن تعود السيكولوجيا العامّة إلى ما كانَتْهُ حالُها من انكسار، قبل غلال الربيع العربي، بل وإلى ما هو في حكم الأسوأ من ذلك. ذلكم تفسيرٌ أوَّّّّّّّّّّّّلٌ لالنازلة يتوسَّل العامل النفسي (الذي ليس ينبغي التقليل من شأنه في حياة الشعوب والأمم). أما العامل الثقافي، الذي يفسّر الانعطاف الحادّ من الانتصارية إلى الانكسارية، ومن المغالاة في الطلب إلى التواضع فيه و-أحياناً- إلى لا طلب، فنعني به نوع الثقافة السياسية التي قرأت أحداث الثورات العربية، وبَنَتْ على القراءة ما بنت من استنتاجات وخيارات اصطدمت، في النهاية، بحائط الامتناع. وليست الثقافة السياسية هذه، في مفهومنا، ما ينتجُه المثقفون والباحثون من أفكار فقط، بل أيضاً - وأساساً- ما يستبطنه الفاعلون الحركيون - من قيادات سياسية ونشطاء وشباب حركيين- من أفكار سياسية توجِّه حركتهم وعملهم، حتى في الأحوال التي يُنْظَر فيها إلى أفعالهم الحركية بوصفها عفوية (فالعفوية من جهة غياب التنظيم والتأطير لا من جهة خلوّ الوعي من الفكرة السياسية). لقد كان لهذه الثقافة السياسية - التي سنصف أظْهر سماتها- الأثر الكبير في أخْذ الرأي العام إلى تلك الاستدارة الحادّة من النقيض إلى النقيض. نَصِف تلك الثقافة السياسية - الموجِّهة والمتمثَّلة في وعي الفاعلين- بأنها ثقافة قُصْووية Maximalisteغير واقعية، وتحشيدية (تحريضية، تجييشية) غير تنظيمية، وشعاراتية غير برنامجية. وبين هذه السمات الثلاث اتصال وارتباط لا تنفصم عُراه، لكنَّا سننظر إليها مستقلةً عن بعضها لضرورةٍ منهجية. نعني بالقُصووية، نزعةً، طلبَ الأقصى من المطالب من دون الاحتفال بما عساه يُمكن فيها - من وجهة نظر الواقع وميزان القوى - أو لا يمكن. ولقد تجلت تلك القصووية، أعلى أشكال التجلي، في مطالب المنتفضين والمجموعات الشبابية المؤتلفة في أطرٍ خاصة، كما في مطالب أحزاب سياسية منخرطة في موجات الحَراك الاجتماعي الاحتجاجي. من مطلب الديمقراطية، إلى مطلب العدالة الاجتماعية، إلى مطلب إسقاط النظام (ملاحظة: إسقاط النظام غيرُ إسقاط فريقٍ حاكم)، إلى مطلب إقامة ملكية برلمانية، إلى مطاب إقامة الدولة الإسلامية...الخ، كان طيف الينبغيات القصووية يتشكل وتفشو مفرداتُه. تلك كانت سماتُ ثقافةٍ سياسيةٍ، رثّة وضحلةِ المحتوى، أطلّت علينا بمناسبة ما سمّوه بالربيع العربي، وكان لها مقاليدُ أحداث ذلك الربيع وتحرّكاته في فصولها كافة. وإذا كان يمكن أن تُعْذَر الجموع الشعبية والشبابية في إفصاحها المادي (الحَرَكي) عن تلك الثقافة، لحداثة عهدها بالعمل الاجتماعي - السياسي، فلا سبيل إلى التماس الأعذار للنخب السياسية، الحزبية والمدنية، عن سقوطها في مستنقعات القصووية والتحشيدية والشعاراتية، فلقد جرّت إلى نتائج سياسية في غاية السوء، وهل من سوءٍ أشدّ سوءاً من أن يَكون من تلك النتائج انقلابُ المزاج العام من الحماسة للتغيير إلى الخيبة والحبوط.