هناك قول أميركي معروف بأن من الأفضل أن تُصلح سقف بيتك المتهالك في الصيف والشمس ساطعة قبل أن تأتي عواصف الشتاء وتجعل ذلك الإصلاح ضروريا ومكلفا. فقد خيّم التشاؤم على التقرير الأخير الصادر عن صندوق النقد الدولي عن المنطقة، بسبب الانخفاض الحاد في أسعار النفط، وازدياد وتيرة الصراعات السياسية في المنطقة، وهو التشاؤم عينه الذي دفع إحدى وكالات التصنيف الائتماني على الأقل إلى تخفيض تقييمها لبعض دول المنطقة. والتشاؤم هو إحدى متلازمات علم الاقتصاد منذ تأسس قبل أكثر من 200 عام، ولكنه قلق مفيد كجرس إنذار قبل فوات الأوان. ومع ذلك، يجب ألا يقودنا إلى الهلع والاعتقاد بقرب نهاية الاقتصاد الخليجي أو السعودي، لأن الهلع يؤدي إلى اتخاذ قرارات متعجلة خاطئة. ونبدأ بالأخبار الجيدة. فكثير من الدول الصناعية والدول النامية تتمنى لو كانت في مكان المملكة العربية السعودية، مثلاً، وتتمنى أن تكون لديها تحدياتها. فالمملكة تحتفظ باحتياطي نفطي يعادل ربع الاحتياطي العالمي المؤكد للنفط، واحتياطات كبيرة من الغاز والمعادن. ومن الثروة المالية، تحتفظ المملكة بنحو 700 مليار دولار من الاحتياطيات والاستثمارات الخارجية، وفي الداخل تمتلك الحكومة أكثر من نصف أسهم الشركات المدرجة في سوق الأسهم التي يبلغ تقييمها نحو 500 مليار دولار، كما تملك شركات غير مدرجة، أبرزها أرامكو، التي تقدر قيمتها بنحو خمسة تريليونات دولار. وبالإضافة إلى ذلك فإن مستوى الدين الحكومي في المملكة انخفض إلى نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي، مؤشراً لإمكانية الاستدانة لدى الحاجة. فهو من أقل مستويات الدين الحكومي في العالم، حيث يُعتبر هذا المعدل معقولا ما لم يتجاوز 60% من الناتج المحلي الإجمالي في الظروف العادية، وفي ظروف الأزمة المالية العالمية تجاوزت معدلات الدين الحكومي 100% من الناتج المحلي الإجمالي في دول صناعية كبرى، مثل اليابان، واقترب منها في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها. أي أن المالية العامة في الدولة قائمة على مخزون كبير، نفطي ومالي واستثماري، وليس هناك خوف في المستقبل القريب أن تتغير قدرتها على تمويل البرامج التنموية للمملكة، أو على الاستدانة إن دعت الحاجة. ومع أخذ كل ذلك بعين الاعتبار، فإن الانخفاض الحالي في أسعار البترول سيؤدي إلى ارتفاع في معدلات عجز الميزانية هذا العام إلى نحو 13% من الناتج المحلي الإجمالي. ووفقاً لتقديرات الصندوق يُتوقع أن يتحول ميزان مدفوعات دول المجلس من فائض تجاوز 15% من الناتج المحلي الإجمالي في 2014 إلى عجز طفيف في ميزان المدفوعات في 2015، وقد يتحول ذلك إلى فائض مرة أخرى إذا طرأ تحسن في أسعار النفط، وتبنت الحكومات بعض الإصلاحات المالية. بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية التي تؤثر في صحة الاقتصاد الخليجي، مثل انخفاض أسعار النفط وانخفاض معدلات نمو الاقتصاد الصيني، فإن الصراعات السياسية في المنطقة تلعب دورا كبيرا. وليس القطاع النفطي هو الوحيد المتوقع انكماشه في دول المجلس، إذ يتوقع الصندوق أن ينخفض معدل نمو القطاع غير النفطي إلى أقل من 4% في عامي 2015 و2016، مقارنة بنحو 6% في عام 2014. وإن استمر انخفاض أسعار البترول كما هو متوقع، فإن ذلك يتطلب إعادة النظر في الأولويات، ومن هنا تأتي أهمية تقرير صندوق النقد الدولي، باقتراح عدد من الإصلاحات المالية، ولبعض هذه الإصلاحات تأثير واضح على رفاه المواطن، ولكن بعضها الآخر لن يكون له تأثير سلبي. من الإصلاحات المهمة التي يقترحها الصندوق إعادة تصميم سياسات الإنفاق بما يتوافق مع متطلبات استمرارية العافية المالية من جهة وحقوق الأجيال القادمة من جهة أخرى، ويعني ذلك ترشيد الإنفاق الحكومي، وتخفيض معدلات التوظيف الحكومي. وينصح الصندوق كذلك بزيادة الاعتماد على نمو القطاع الخاص، ودعمه، وكذلك بزيادة الحوافز للمواطنين للالتحاق بالعمل في هذا القطاع، ورفع مستوى مهاراتهم، أو تغييرها، لتسهيل انخراطهم في القطاع الخاص، وتحسين مستوى التعليم بما يتواءم مع احتياجات سوق العمل. إذن تتلخص توصيات الصندوق لدول مجلس التعاون بتخفيض معدلات التوظيف في القطاع الحكومي، والإنفاق الحكومي إجمالا، والنظر في زيادة الضرائب، ورفع أسعار المشتقات النفطية بما يقربها من الأسعار العالمية. وفي المقابل يقترح دعم القطاع الخاص وزيادة الحوافز للمواطنين للالتحاق بالعمل فيه. وهي توصيات معتادة من الصندوق في جميع الظروف، ولكنها تزداد أهمية في ظل الظروف المالية الحالية، وتتطلب بالفعل إعطاءها هذه المرة نصيبا أكبر من الاهتمام. فمثلاً، فيما يتعلق بالإنفاق الحكومي، فإن من الصعب حالياً تخفيض الإنفاق على مشاريع ضرورية لتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطن، أو للدفاع عن الوطن وهو في حالة حرب، ولكن تخفيض معدلات التوظيف الحكومي بشكل عام أمر مطلوب، خاصة في الدوائر الحكومية التي تجاوز فيها عدد الموظفين الحاجة الفعلية. وبالنسبة لزيادة أسعار المشتقات البترولية، فإن ذلك يمكن إدارته بشكل لا يؤثر على المواطن محدود الدخل، عن طريق الجمع بينه وبين زيادة مخصصات الضمان الاجتماعي، وزيادة مرتبات ذوي الدخل المحدود في القطاع الحكومي المدني والعسكري. أما الإصلاح الضريبي، فإن الوقت قد حان لإدخال نظام ضريبة القيمة المضافة، وبالمقابل إلغاء الكثير من الرسوم والضرائب الثانوية التي لا تدر على الدولة دخلاً يُذكر ولكنها تثقل كاهل الأسر الفقيرة.