×
محافظة المنطقة الشرقية

عام / مدير تعليم صبيا يستعرض الخطط التشغيلية بالإدارة

صورة الخبر

يبقى «حكم الزمن»، أو «الحكم التاريخي»، كما يرى عدد من الدارسين، أبرز مؤشر على القيمة التي يمكن أن يقاس بها الإبداع، في كل زمان وفي كل مكان، رغم أن الزمن، كما يرى الفيلسوف وعالم النفس الروماني ألكسندرو روشكا، «لا يطمس المنسيات فقط، إنما يمكن أن يخرج إلى النور، ولضرورات معينة، أعمالا كانت منسية». لذلك يتم الإجماع على أن الإبداع إما أن يذهب إلى قبره فينسى، وإما إلى التاريخ فيخلد مواصلا مسلسل الاحتفاء والاستمتاع به، على الرغم من تغير القراء وتبدل الحساسيات، فكان أن عاش بيننا، عربيا، على الأقل، مبدعون كبار، من طينة طرفة بن العبد وامرئ القيس وأبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري وأبي حيان التوحيدي والجاحظ، من القدماء، وجبران خليل جبران وبدر شاكر السياب وأبي القاسم الشابي ومحمود درويش ومحمد شكري ونجيب محفوظ، من المحدثين، بشكل أكد أن المبدعين يرحلون بينما تخلد أسماؤهم وتعيش إبداعاتهم. وبينما نعيش، يوميا، متعة الإبداع، بغض النظر عن كاتبه، يحدث أن نتذكر المبدعين الراحلين في لقاءات ومناسبات تخلد لذكرى ميلادهم أو غيابهم، اعترافًا منا بقيمتهم ومساهمتهم في مسيرة الإبداع الإنساني. في المغرب، مثلا، حلت هذا الشهر الذكرى العشرون لرحيل الشاعر أحمد المجاطي (1936 - 1995) الذي اشتهر بديوانه الوحيد «الفروسية»، الذي يضم بعض أجمل قصائد الشعر المغربي المعاصر، من قبيل «من كلام الأموات»، و«عودة المرجفين»، و«كبوة الريح»، و«كتابة على شاطئ طنجة»، و«سبتة»، و«دار لقمان عام 1965»، و«السقوط» حيث نقرأ: «تلبسني الأشياء / حين يرحل النهار / تلبسني شوارع المدينة / أسكن في قرارة الكأس / أحيل شبحي / مرايا / أرقص في مملكة العرايا / أعشق كل هاجس غفل / وكل نزوة أميرة / أبحر في الهنيهة الفقيرة / أصالح الكائن / والممكن والمحال / أخرج من دائرة الرفض ومن دائرة السؤال / أراقب الأمطار / تجف في الطوية / الأمارة / تسعفني الكأس ولا / تسعفني العبارة». وتتفق الكتابات، التي تناولت الشعر المغربي الحديث بشكل عام، والشعر المغربي المعاصر بشكل خاص، على أن عقد الستينات من القرن الماضي، التي يحسب عليها المجاطي، قد شكل «الانطلاقة البهية» للشعر المغربي، في حلته المعاصرة، وأن «القصيدة المغربية المعاصرة ظلت تواجه أسئلة التحول، بكل غموضها والتباساتها وإشكالاتها». عشرون سنة مرت على رحيل المجاطي، الشاعر الذي أطلق عليه كثيرون لقب «شاعر المغرب»، هو الذي كان مقلا في شعره، حيث ظل، كما كتب عنه الكاتب والإعلامي المغربي محمد بوخزار، «شاعر الندرة طوال حياته الحافلة بالمكابدات الذاتية، مقاوما إغراءات الإكثار من الإنتاج، رافضا أن يكون لسان الغير على مستوى القاموس اللغوي والإيقاع والصور والأخيلة، أو الانتساب لمدرسة شعرية معينة، لذلك تعددت المؤثرات والظلال في شعره ونجح في إخفائها في تلابيب لغته الصافية البلورية وخبايا ذاته الملتهبة ووجدانه المنكسر جراء الإخفاقات، فأعانه كل ذلك على كتابة «القصيدة الفريدة الغراء»، وجاء تجديده غير مسبوق، وإضافة نوعية إلى القصيدة المغربية الحديثة، ماثلة في كل نماذجه، وهي سمات يقر بها من حاولوا السير على منواله أو اتخذوا لهم نهجهم الخاص». من جهته، يتذكر الناقد والباحث السوري محيي الدين صبحي علاقته بالشاعر المغربي الراحل، فيكتب: «أخبرني بأنه إذا لم يشتغل على القصيدة حولا كاملا فإنه لا يخرجها للجمهور، وفي رأيه أن القصيدة التي لا تستدعي الاشتغال بها لمدة عام، هي قصيدة تولد ضعيفة ولا حاجة له بها. من قبله كان على غراره زهير بن أبي سلمى والنابغة، ثم المتنبي والمعري. أما عن صعوبة القصائد فنقول إن الجميل عسير، حسب المثل الإغريقي، إذ لا بد أن تأتي القصيدة صعبة حين تحرص على جمع المتناقضات، والتأليف بينها في سياق شعري يضم حداثة التراث إلى تراث الحداثة، ويصهر عناصر الواقع في رؤيا المستقبل». من جهته، كتب الناقد المغربي نجيب العوفي، في تقديمه للطبعة الثانية من ديوان «الفروسية»، عن المجاطي - الإنسان، تحت عنوان «فروسية الحروف»: «لم يكن الشاعر الراحل أحمد المجاطي إنسانا عاديا أو رماديا، يأكل الطعام ويمشي في السوق ويؤخذ ببريق الحياة وسرابها، في انتظار لحظة الصمت الأدبي والاستراحة الأبدية. لم يكن قط كذلك، وإلا لما كان شاعرا في مثل توهجه وتألقه وصهيل وجدانه وروحه». ثم يضيف، متحدثا عن المجاطي - الشاعر: «لقد كان أحمد المجاطي شاعرا كبيرا، بكل المقاييس والمعايير، ومن هنا ندرة شعره وشح عطائه. هل في الأمر، ترى، مفارقة وغرابة؟! وكيف يجتمع مجد الشعر مع قلة الشعر؟! هو الأمر كذلك. لأن المصطلي بجمرة الشعر اللاهبة، والعارف حقا بقداسة الشعر وعذابه وعذوبته، لا يمكن أن يحني هامته أمام الشعر، ولا يمكن إلا أن يقشعر منه البدن وترتعد منه الفرائص أمام لحظة الشعر الخارقة والحارقة.. ولا يمكن من ثم إلا أن يكون شعره قليلا وجميلا وجليلا، كالأحجار النفيسة والأشياء النادرة في هذا الوجود». ويرى العوفي أن «المجاطي لم يكن شاعرًا على الورق فحسب، وأثناء تخلق القصيدة وانبجاسها، بل كان، في حد ذاته، قصيدة حية وحيية تمشي على قدمين. كانت خطواته الوئيدة أشبه ما تكون بالإيقاعات العروضية الخافتة البطيئة. وكان صمته مترعا بالشعر ورعود الروح. كما كانت نظراته قادحة وعاكسة لشرر الدواخل. كانت صفحة النهر الملساء تخفي جيشانا داخليا واصطخابا عميقا، لم يكن يظهر منهما على سطح النص والقصيد سوى غيض من فيض وشرر من أجيج. ومن هنا نفهم سر هذه الكثافة الشعرية عند الشاعر، وهذا الضغط النفسي واللغوي المرتفع في نصوصه. من هنا يكون (بياض) الشاعر عنده أوسع بكثير من (سواده) أو منجزه. وهكذا كان كبار الشعراء، المسكونين بنار الشعر». ومن هنا، يضيف العوفي، «احتل أحمد المجاطي مكانته البهية في تاريخ شعرنا المعاصر، عن جدارة واستحقاق، كأب روحي وفعلي للقصيدة المغربي الحديثة. فمن خوالجه ومواجده اقتاتت، وعبر حروفه وكلماته تفتحت وترعرعت، ومن لهاته وعلى شفته صدحت وغنت، وفي كنفه وجدت مأواها ومرعاها»، مشددا على أن الراحل «كان مؤسسا للقصيدة المغربية الحديثة، ومدشنا للحداثة الشعرية في المغرب، بعد أن كان الشعر في هذا البلد وعلى امتداد أزمنة متتالية، تقطيعا وأوزانا، ومراثي وأمداحا، ووعظا وإرشادا». وإضافة إلى هذا الدور الريادي وفي كنفه، يضيف العوفي: «كانت التجربة الشعرية للمجاطي تشكل حصانة للشعر ومناعة له ضد الابتذال والرداءة والتسيب. كانت فروسية حروفه الشعرية في حد ذاتها ترياقا للشعر وبلسما شافيا له، ودما حارا يسري في أوردته ويجدد نبض الحياة في جسده. ومع توالي الأيام، واستفحال «السقوط» و«كبوة الريح» و«عودة المرجفين» في مشهد الحياة كما في مشهد الشعر، تتوطد مكانة المجاطي الشعرية ويتجدد الحنين إليه، كواحة شعرية يانعة وظليلة وقيمة إبداعية عالية وأصيلة. مع توالي الأيام، تجدد الحاجة إلى فروسية المجاطي الشعرية ووقدة حروفه اللافحة». ينتهي محيي الدين صبحي، في ورقته النقدية الملحقة بـ«الفروسية»، تحت عنوان «حداثة التراث وتراث الحداثة في شعر أحمد المجاطي»، إلى الحقيقة التالية: «لقد ظفر الشعر العربي الحديث من ديوان المجاطي بحلقة جديدة في السلسلة الذهبية، التي شكلها جيل الرواد في الخمسينات. فبعد السياب والبياتي وخليل حاوي، يتبوأ الشاعر أحمد المجاطي مكانته بين رواد الشعر الحديث، الذين طوروا الأداء واللغة الشعريين بالعربية. أما بالنسبة لشعراء المغرب العربي في السبعينات والثمانينات، بين القاهرة والجزائر، فهو رأس الطليعة التي تستحق لقب شاعر». والواقع أن محيي الدين صبحي لم يفعل، للحديث عن المكانة الرفيعة التي أعطاها للشاعر المغربي الراحل بين رواد الشعر العربي الحديث، أكثر من الاستناد إلى «عمق التجربة واكتناز التعبير وكثافة الشعور»، مشددا على أن «عمق التجربة مقرون بنصاعة العبارة وبساطتها، لكي تظل القصيدة أداة توصيل صالحة». وفضلا عن مسيرته الإبداعية المتميزة، عرف الراحل المجاطي ناقدا وباحثا وأستاذا جامعيا مشهودا له بالكفاءة والتميز، لذلك ترك لنا، فضلا عن ديوان «الفروسية»، المطبوع مرتين، دراستين نقديتين، الأولى رسالة رصدت «ظاهرة الشعر الحديث» (1971)، والثانية أطروحة تناولت «أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث» (1992)، نال بهما، على التوالي، درجتي دبلوم الدراسات العليا ودكتوراه الدولة من الجامعة المغربية.