يعتمد محسن الرملي في روايته الرابعة «ذِئبة الحُب والكُتُب» على سيرته الذاتية وينهل منها كثيرا من الوقائع والأحداث التي تؤثث متن نصه الروائي القائم على عنصري المفاجأة والتشويق. تتمثل المفاجأة الأولى في الجملة الاستهلالية التي أقرّ فيها الراوي بأنه مؤلف كل الكتب التي تحمل اسمه باستثناء «ذِئبة الحُب والكُتُب» الذي وجدهُ مُصادفةً حين كان في الأردن فقلَبَ حياته رأسًا على عقب وجاء إلى إسبانيا بحثًا عن المرأة التي كتبته. لعل ما يميّز هذه المرأة عن سواها أنها تبحث عن الحُب الخالص الذي يلبّي حاجة الروح ولا يستجيب لرغبات الجسد. يقوم الهيكل المعماري للرواية على شخصيتين أساسيتين وهما هُيام كاتبة النص الروائي المطبوع وحسن، الاسم الذي اختارتهُ هُيام للراوي الذي هو محسن الرملي الكائن السيري الذي طوّع سيرته الذاتية التي تمتد من قرية «سديرة» إلى عمّان مرورًا بإسبانيا وانتهاء بطريق عمّان - بغداد حين امتدت يده إلى حقيبته وسحبت المغلّف الذي سلّمه إياه صديقه الصعيدي رفاعي وإذا به يُفاجأ برواية «ذئبة الحُب والكُتب». لا بد من الإشارة إلى أن هُيامًا قد أحبت لغة حسن مطلك وأسلوبه، ورؤاه الفنية، ومواقفه الفكرية من خلال قراءتها لقصائده ورواياته. ولو لم يشنقوه إثر اشتراكه في محاولة لقلب نظام الحُكم في العراق لما أحبّت غيره لأنه يريدها ألا تكفّ عن الحُب فهو القائل: «إن الشرّ فكرة، وأن الحُب طبيعة» (ص84). لم تعُد الإيميلات أو الرسائل النصية تقنية جديدة، لكن محسن الرملي وظّفها كذريعة لكي يروي بها العاشقان، حسن وهُيام، بضمير المتكلم على الرغم من اختباء الأخيرة وراء ضمير الغائب «هي» التي تشكّل عتبة نصيّة تميزها عن الراوي الأول أو الكائن السيري محسن الرملي الذي ارتأت أن تسميّه الراوية الثانية الموازية له على مدار النص بـ«حسن»، أي حسن مطلك، شقيق محسن الرملي الذي يكرس نصف حياته للشقيق الغائب الحاضر. لقد دخل حسن إيميلها مصادفة فانفتح أمامه عالمٌ جديد لم يألفه من قبل. تُرى، هل أن ما حدث هو حقيقة دامغة أم أن القصة برمتها هي من نسج خياله المتوهج؟ هل أن هُيامًا موجودة فعلاً على أرض الواقع أم أنه تقمّص دورها وجعلنا كقرّاء نتحرّق شوقًا إلى لحظة اللقاء المرتقبة التي تجمع بين الحبيبين المتباعدين اللذين تفصلهما آلاف الأميال؟ لا تكتفِ هُيام بسرد قصة زواجها من الدكتور عبّود المنتمي إلى حزب السلطة والمُدافع عنه حتى الرمق الأخير وإنما تروي قصة والديها اللذين لم يُوفقا في زواجهما أيضًا، فأمها تنتمي إلى أسرة ثرية، والأب منحدر من عائلة فقيرة انتقلت من سامراء إلى بغداد. كلا الأبوين ينتمي إلى حزب السلطة، لكن الأم تعتزل العمل السياسي، بينما ينتقد الأب لاحقًا «الحزب القائد» فينتهي به الأمر مشنوقًا ومُغيبًا في مقبرة جماعية مجهولة. وعلى الرغم من أهمية الأبوين في حياة هُيام المادية فإن دور الجد المعنوي كان الأكثر سطوة لجهة علاقته بعنوان الرواية ومتنها السردي. فالجد اسمه «ذَهَب» لكن الناس يلقبونه بـ«الذئب». تزوج بابنة مهراجا في أطراف دلهي فأنجبت له أربعة أطفال، وخلّفت له ثروة كبيرة، كما تزوج بعراقية أنجبت له طفلين وكانت حاملاً بوالد الراوية حينما لقي حتفه إثر سقوطه من ظهر جواد مجنون على تمثال حجري. اقترنت هُيام بالدكتور عبّود من دون أن تحبه، فهو أكبر منها سنًا، وإذا أرادت أن تقبّله تشعر بأنها تمارس عملاً مُحرمًا مع عمها أو خالها. كما أحبت هُيام خمسة شُبان وهم ابن عمتها عدنان، وبحر الدين الشيشاني، ويوسف الحلاوي، والمهندس زكريا، وخلف موريس، الدعي الذي سنكتشف ارتباطه بمخابرات النظام السابق واللاحق أيضا، كما تعرفت على راشد. وعلى الرغم من اختلاف درجات الحب بينهما فإنها لم تندم قدر ندمها على علاقتها بخلف موريس، ولكنها تجاوزته حينما كرست حياتها لحسن وظلت تبوح له على مدار النص الروائي وتتمنى لقاءه واحتضانه على أرض الواقع. ما يميز حركة الشخصيات في هذه الرواية أنّ هُيامًا قد تنقلت بين بغداد وعمّان وأربد صنعاء وحضرموت وأم درمان وطرابلس وتونس والمغرب قبل أن تصل إلى مدريد لتتواصل مع حسن عبر الإيميل والهاتف الجوال لتعبّر له عن حُبها الخالص الذي يبتعد عن النزوات الجسدية. أما حسن فقد وظف سيرته الذاتية خير توظيف حينما انتقل بنا من قرية سديرة إلى عمّان وأربد ومنها إلى مدريد، متتبعًا سيرته الحياتية والأدبية التي أنجز فيها كل مجموعاته القصصية والروائية، متوقفًا بين أوانٍ وآخر عن بعض الأحداث المهمة مثل تمثيل مسرحية «البحث عن قلب حيّ» وطبع أولى مجموعاته القصصية وطريقة بيعها على الأصدقاء من الأدباء والمثقفين العراقيين والأردنيين. وبما أن مادة الرواية مستلهمة من سيرته الذاتية فلا غرابة أن تحتشد بأسماء حقيقية وأخرى مستعارة. ومن بين الأسماء الحقيقية عبد الوهاب البياتي، علي طالب، عوني كرّومي، أحمد خريس، مؤنس الرزاز، محمد القيسي، عبد الهادي سعدون، ملَك مصطفى وآخرين. يواصل حسن رحلة بحثه المحموم عنها في الأماكن التي وردت في رسائلها لكنه لم يفلح في الوصول إليها مما دفع بأصدقائه المحتفلين بعيد ميلاد زميلهم أحمد كاظم لأن يقدموا اقتراحات عدة من بينها الاشتغال على رسائلها وإصدارها في عمل روائي لافت للانتباه. اقترحت لوثيا الأندلسية أن يكتشف زوجها هذه الرسائل ويضع حدًا لارتباطه بها. اقترحت ملَك أن تعرف هُيام خبر نجاة حسن مطلك من والدها الذي لم يمت هو الآخر وإنما كان شريكا لحسن في الزنزانة. تصلح كل هذه المقترحات لأن تكون نهاية منطقية للرواية، لكن الرملي يتوفر حقًا على موهبة أدبية كبيرة حينما ترك العاشقَين يبحث بعضهما عن بعض ولا يلتقيان إلا عبر الرسائل الإلكترونية على الرغم من وصوله إلى مدريد. تبدو هُيام شهرزاد جديدة، فهي تروي لنا كل يوم تقريبًا قصة جديدة تسرد من خلالها جانبًا من حياتها الشخصية والأسرية والعامة وتضعنا في صورة ما يحدث لامرأة ذكية، جميلة وجذابة لا تحب أن يُطرى جمالها الخارجي وإنما تتمنى على الآخرين أن يتغزلوا بشخصيتها القوية، وعقلها الراجح، وأفكارها النيّرة التي اقتبستها من الحياة والقراءة والتجارب الشخصية المريرة. لا شك في أن البطلين مثقفان، فحسن، أي «محسن الرملي» نفسه، هو قاص وروائي وكاتب مسرحي ومترجم قدِم من قرية سديرة ولكنه كان يحلم بمدريد. أما هُيام، سليلة جدها الذئب، فهي «ذئبة الحب والكتب» بامتياز، التي تتلهف لحبيب مثقف يحاورها في الأدب والفن والكتب الصادرة حديثا. باختصار، هي رواية مثقفة تتفحص الذات والموضوع في آنٍ معا.