قليلون في التأريخ الإنساني من يتفق الناس عليهم إيجابا، وأقل منهم من يمثل رحيلهم خسارة للإنسانية. السيئون والحمقى الذين عبثوا بمصائر الناس، ومقدرات الأوطان كثيرون، لكن الذين وضعوا مجتمعاتهم وأوطانهم فوق كل اعتبار وسخروا أعمارهم من أجلها وقدموا التضحيات الباهظة، لم يعد الزمن ينتجهم إلا نادرا، ومنهم هذا الأسطورة الذي رحل يوم أمس نيلسون مانديلا.. خمسة وتسعون عاما انتهت في اللحظة التي دق فيها قلبه الدقة الأخيرة، لكنها لم تكن عمرا زمنيا فقط، بل تأريخا من المعاناة من أجل المبادئ والقيم، والنضال من أجل الحرية والكرامة والعدل، لم تكن سنوات السجن الطويلة والوحدة المريرة قادرة على تقديم التنازلات أو التراجع عن القناعات، ولم يكن العذاب والامتهان كفيلا بتحويل المسار أو الخروج عنه. كان بإمكانه ألا يدخل السجن، وكان بإمكانه أن يخرج منه مبكرا لكنه فضل السجن في سبيل أن يخرج وطنه من الأغلال التي كبلته طويلا وجعلت إنسانه مستعبدا ذليلا. وكان بإمكانه أن يقتص من السجان ويثأر وينتقم لكنه قدم درسا يندر أن يتكرر في التأريخ، الصفح والعفو والتسامح. كان مؤمنا بأن الحياة لا يجب أن تتلوث بالأحقاد والضغائن، من أساء سوف يعاقبه التأريخ، ومن أحسن سوف يكافئه التأريخ، وها هو يثبت نظريته عندما جلل الحزن كل أرجاء العالم عند إعلان وفاته.. لم تجذبه غواية السلطة ليتشبث بها فقدم نفسه مثالا للزهد فيها، وأنه لم يقبلها الا ليعيد ترتيب أوراق وطنه ويطلق عصافير الحرية والديموقراطية في سمائه ثم يتنحى ليتأمل الوطن الجديد الذي انبثق على يديه. كم حاكما يا ترى استفاد من درس كهذا أو اعتبر منه؟ كيف لم يفكر بعض الحكام بقيمة ما فعله مانديلا لنفسه ولوطنه؟؟.. اعتاد الناس على القول بأنه سيمضي زمن طويل قبل أن يتكرر أحد الرموز، لكن في نموذج مانديلا يصعب قول ذلك لأنه يندر أن يتكرر. habutalib@hotmail.com للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 738303 زين تبدأ بالرمز 259 مسافة ثم الرسالة