في أبريل جلس رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى مائدة الاجتماعات في مكتبه ببغداد، مع ما يقرب من 20 رجلًا يرتدون ملابس القتال. ولم يكن هؤلاء الرجال من ضباط الجيش العراقي بل ممثلين للفصائل الشيعية المسلحة التي قادت الحرب على تنظيم داعش الإرهابي. وألقى هادي العامري الذي يعد من أرفع قادة الفصائل كلمة طويلة بليغة عن الانتصارات الأخيرة التي سطرها مقاتلوه. ويظهر تسجيل بالصوت والصورة للاجتماع أن العبادي جلس وهو يرتدي سترة ورابطة عنق منصتًا إليه وكان يدِّون ملاحظات بين الحين والآخر. تولى العبادي منصبه قبل ما يزيد قليلًا على العام بدعم من الولايات المتحدة وإيران. ووعد بإعادة بناء البلاد التي ورثها مفككة من سلفه نوري المالكي الذي اتهمه كثيرون بإذكاء انقسامات طائفية. لكن منذ ذلك الحين تسرب مزيد من السلطة من الحكومة إلى قيادات الفصائل الشيعية المسلحة. وهذه القيادات متآلفة مع العبادي. لكن أكثرها نفوذًا يصف نفسه بأنه موالٍ لا للعراق فحسب بل للزعيم الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي. وتستخدم ثلاث فصائل كبرى هي منظمة بدر التي يرأسها العامري وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله صورة رجل الدين الشيعي الإيراني إما على لافتاتها أو في مواقعها على الإنترنت. ويصف مسؤولو منظمة بدر علاقة منظمتهم مع إيران بأنها تخدم المصالح الوطنية العراقية. وفي البداية لم يكن للعبادي من خيار سوى الاتكاء على الفصائل الشيعية شبه العسكرية. وتنامى نفوذها بعد أن استولى تنظيم داعش المتطرف على مساحات كبيرة من شمال العراق في يونيو العام الماضي ووجه أرفع المراجع الشيعية في العراق آية الله العظمى علي السيستاني نداء للتطوع من أجل قتال التنظيم الذي سارع إلى إعلان قيام دولة خلافة على جانبي الحدود العراقية السورية. ومع تزايد شعبية الفصائل الشيعية أبدى العبادي علانية استياءه من نقص التأييد الغربي. وأوضح بجلاء رغبته المستميتة في الحصول على مساعدة في وقت سابق من الشهر الجاري بعد أن بدأت إيران وروسيا عمليات هجومية ضد التنظيم المتشدد في سوريا. وقال رئيس الوزراء إنه سيرحب بالضربات الجوية الروسية في العراق أيضًا. ولا يتطلع العبادي فقط إلى هزيمة داعش بل تدعيم وضعه في العراق. وخلال الأشهر القليلة الماضية حاول فرض سلطته على قادة الفصائل وحلفائهم السياسيين وتذكير العراقيين أنه القائد الشرعي للبلاد. ويذكي هذا التوترات حول من يسيطر على العراق. وما زالت موارد العبادي محدودة. ولم يبرأ الجيش النظامي العراقي بعد من الهزيمة التي مني بها العام الماضي على أيدي مقاتلي داعش. ويفضل أغلب الشبان من الشيعة الآن الانضمام للفصائل شبه العسكرية التي يرونها أكثر جسارة وأقل فسادًا. ويقول ضباط عسكريون أمريكيون وغربيون آخرون إن فرقة من فرق الجيش تخضع الآن لقيادة الفصائل بشكل غير رسمي. ويقول ضباط أمنيون وساسة عراقيون ومسؤولون عسكريون أمريكيون إن عناصر شيعية شبه عسكرية تتولى على الأقل سيطرة جزئية على وزارة الداخلية. وترفض الحكومة العراقية ما يتردد في هذا الصدد. وتقول الفصائل الشيعية التي تهيمن على معظم الخطوط الأمامية إنها تؤيد الحكومة ولا تمثل تهديدًا للأقلية السنية في البلاد. وقال نعيم العبودي المتحدث باسم عصائب أهل الحق إن لجان الحشد الشعبي وهو الاسم الشائع للفصائل الشيعية تتبع الحكومة العراقية. وأضاف «الحشد لا يمثل طائفة. بل يمثل العراقيين كلهم». لكن الفصائل لا تخفي استقلالها عن بغداد. وسئل العامري زعيم منظمة بدر في مقابلة تلفزيونية الشهر الماضي عن وجود صراع نفوذ بين أمريكا وإيران وعن دور المليشيات في هذا الصدد في العراق فقال «أنا ما أفكر في هذا الشيء. أنا أفكر وإلا جينا للحكومة العراقية وقلنا إحنا ما نقبل بوضع الحكومة العراقية إحنا كنا عندنا الحشد. الحشد الآن به صدريون والمجلس وبدر ودولة القانون نضغط على العبادي نقوله لا تسوي كذا أو تسحب ال. احنا ككتل سياسية قابلون بالتحالف الدولي، التحالف الدولي صار له سنة وما عارضناه في أي يوم. يستطيع أن يقوم بعمليات، لكن مفيش نتيجة. لذلك هناك شرط. أما تتزامن عملياتك مع عملياتنا ما نقبل. مثلًا ما عندنا عمليات في الأنبار روح أضرب في الأنبار. احنا ما معترضين على التحالف الدولي». وقال مسؤول عراقي رفيع المستوى مقرب من رئيس الوزراء إن الفصائل تعمل بشكل مستقل. وأضاف إن أهدافها تتفق أحيانًا مع أهداف العبادي إذ تركز على الدفاع عن المناطق التي تمثل أهمية إستراتيجية للطائفة الشيعية. وتولى العبادي السلطة في سبتمبر 2014 ووعد برأب الصدع بين السنة والشيعة والقضاء على الفساد. لكن سرعان ما تبددت هذه الطموحات المبكرة. وبعد تفجر احتجاجات شعبية في أواخر يوليو بسبب مشكلات انقطاع الكهرباء والمياه أطلق العبادي حملة جديدة لمكافحة الفساد. وقال أيضا إنه سيشذب حكومته واستغنى عن نواب رئيس الوزراء الثلاثة كما ألغى مناصب ثلاثة نواب للرئيس العراقي وكان أحدهم المالكي رئيس الحكومة السابق. وحذر العامري وأبو مهدي المهندس أحد قادة الفصائل وهو حليف وثيق الصلة بالحرس الثوري الإيراني من أن المطالبة بالإصلاح تهدد الديمقراطية في العراق. وكان نواب رئيس الوزراء الثلاثة قد تحدوه وشككوا في قانونية قراراته. وتتزايد التوترات. فقد ضرب رجال مرتبطون بالفصائل محتجين من بينهم نشطاء علمانيون ومواطنون عاديون وإسلاميون يميلون للإصلاح. ويقول محتجون إن اثنين من المتظاهرين على الأقل قتلا منذ أغسطس. جيش من؟ كان العبادي يواجه تحديات كثيرة عندما تولى منصب رئيس الوزراء. فقد ورث جيشًا كاد أن ينهار. وقبل ثلاثة أشهر من توليه المنصب اجتاح تنظيم داعش صفوف الجيش في الموصل أكبر مدن شمال العراق. وفي أوج انتشاره سيطر التنظيم المتشدد الذي استخدم الاغتصاب سلاحًا للإرهاب وأعدم الشيعة والمسيحيين على مساحة تقرب من ثلث مساحة العراق. كما واجه العبادي أزمة في الميزانية بسبب إسراف سلفه في الإنفاق وانخفاض أسعار النفط. وأبدى مؤيدوه حسرتهم لأن هذا الرجل المهذب الذي لم يكن له خبرة تذكر بالقيادة كلف بمهمة مستحيلة. وفي البداية كافح العبادي للاستفادة مما تبقى من الجيش والشرطة الاتحادية. وقال اللفتنانت جنرال ميك بدناريك أرفع الضباط الأمريكيين في العراق في الفترة من 2013 حتى يوليو «لم تكن الصورة واضحة حقًا عن عدد الجنود لديه أو عدد رجال الشرطة ومن كان بالفعل مسجلًا على القوائم». وقال بدناريك إن العبادي ووزير دفاعه بذلا جهدًا كبيرًا في هذه المسألة وبحلول نوفمبر من العام الماضي أدرك أن الجيش «غير مستعد ويفتقر للقيادة». وأعلن العبادي أنه حدد 50 ألف «جندي وهمي» - أي الجنود الذين لم يكن لهم وجود لكن مرتباتهم كانت تصرف - وقام بشطبهم من القوائم. ويعتقد من لهم مآخذ على الحكومة أن هناك المزيد من الجنود الوهميين. كما لجأ العبادي إلى الفصائل طلبًا للدعم. وقال بدناريك الذي استقال في أواخر أغسطس الماضي «هو لا يحب ذلك. لكنه مضطر لأن قوات الأمن العراقية لا يمكنها إنجاز المهمة وحدها». ويتجاوز قوام قوات الحشد الشعبي الآن 100 ألف مقاتل. وعلى الورق يحصل الحشد الشعبي على أكثر من مليار دولار من الموازنة العراقية. وقال مسؤولان عراقيان إن الفصائل تحصل على تمويل إضافي من مصادر أخرى من بينها إيران وشخصيات دينية وسياسية لكنهما امتنعا عن ذكر أي تفاصيل. ويعتقد مسؤولون عسكريون أمريكيون أن مبالغ ضخمة ترد من ايران. «خارجون على القانون» رغم أن العبادي يعتمد على الفصائل الشيعية فقد أبدى شعوره بالإحباط بسبب القيود التي تكبل سلطته. فلا يتم إبلاغه بكل أنشطة الفصائل. وأصبح ذلك واضحًا في أبريل عندما بدأت المليشيات قصف مناطق مدنية دون إبلاغه في إطار حملتها لاسترداد مدينة تكريت ذات الغالبية السنية من أيدي تنظيم داعش. وكان ذلك التحرك مفاجأة للعبادي. وقال بدناريك «قوات الأمن العراقية لم تكن تعلم شيئًا. والعبادي لم يكن عنده فكرة. ولم يكن سعيدًا بذلك. فلم يطلبوا الإذن منه». وحاول العبادي تأكيد سيطرته على الأمور بطلب توجيه ضربات جوية أمريكية ضد تنظيم داعش. غير أنه بعد أن ساعدت الضربات في إرغام التنظيم على الخروج من تكريت عاث مقاتلو الفصائل الشيعية في المدينة نهبًا وأشعلوا الحرائق في المباني. ووقعت أعمال النهب بعد ساعات من جولة قام بها العبادي في المدينة. المزيد من الصور :