بيّنتُ في الحلقة الماضية أن الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه مبلغًا ومشرعًا، فيكون تبليغه للعموم، وليس بالمسارة، ومن هنا نجد عدم قبول أبي بكر، وعمر -رضي الله عنهما- الخبر المفرد، إلاّ بتوثيقه، وتأكيده بشهادة صحابي آخر، كما في خبري توريث الجدّة، والاستئذان، ممّا يُؤكِّد عدم إجماع أهل السنة على ذلك، وعدم صحة مقولة أنَّ أحاديثَ الآحادِ حُجَّةٌ بِنَفْسِها في الأحكام، لا يُفَرَّقُ بينها وبين الأحاديث المتواترة، كما نجد الرسول صلى الله عليه وسلم توقف في قبول خبر ذي اليدين، بأنه سلَّم على رأس ركعتين من صلاة العشاء، لأنه تَخيّل غلطه، حيثُ استبعد أن ينفرد بمعرفة هذا الأمر دون من حضره من الجمع الكثير؛ ولم يقبله إلاّ بشهادة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وغيرهما من الصحابة. والذين يقولون بقبول خبر الآحاد لا يعتبرون هذه الوقائع حجة في عدم قبول الروايات المفردة، بل يستدلون بها على قبول الصحابة لها، وعند التوقف عند أدلتهم على قبول الخبر الواحد في الأحكام نجدها في: 1- قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ...)، دليل على قبول الخبر الواحد، فهو استدلال ليس في محله، لأنه لو كان كذلك لقبل أبوبكر وعمر -رضي الله عنهما- بالخبريْن المفرديْن، ولم يطلبا توثيقهما، وهما أفهم للقرآن الكريم، فالآية تتحدث عن ضرورة التوثق من خبر الفاسق لئلا يصيب قومًا بجهالة. 2- قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، يقولون الطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والإنذار إعلام بما يُفيد العلم، والتبليغ لأمور الشرع.. وهو استدلال ليس في محله، فالآية تتحدث عن التفقه في الدِّين وتعليمه، وليس عن قبول رواية الفرد الواحد في خبر التشريع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف يطلق على الطائفة واحد، فقوله (نفرَ) فعل ماض، وليس اسمًا، فلم يقل (نفَرٌ). 3- إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم عليًّا، ومعاذًا، وأبا موسى في أوقاتٍ مختلفة إلى اليمن؛ يُبلّغُون عنه؛ ويُعلِّمُون الناس الدِّين، وأهمُّ شيء في الدِّين هو العقيدة، وفي رأيهم: هذا دليلٌ على أنَّ العقيدة تَثْبُت بخبر الواحد، وإلاَّ ما اكتفى صلى الله عليه وسلم بِمُفْرَدِه، ولأرسل معه من يَتواتر به النقل.. وهذا استدلال ليس في محله، لأن تفقيه الناس في دينهم لا علاقة له بقبول الرواية المفردة في التشريع، فإن كان صلى الله عليه وسلم توقَّف في خبر ذي اليدين؛ لأنّه تخيّل غلطه، حيث استبعد أن ينفرد بمعرفة أنَّه سلم على رأس ركعتين في صلاة عشاء دون من حضره من الجمع الكثير، فكيف يُقبل الخبر الواحد في التشريع؟! لذا لم يقبل أبوبكر وعمر -رضي الله عنهما- الخبر الواحد من المغيرة بن شعبة، وأبي موسى الأشعري في توريث الجدّة، والاستئذان تأسيًا برسول الله؛ إذ كانا شاهديْن على الواقعة! suhaila_hammad@hotmail.com