قلنا مراراً في هذا المكان أن ما يحدث في الإقليم، ليس مجرد، مغص عارض، ولا هزات عابرة، وإنما عمل ممنهج، صاغته قوى قادرة ومسيطرة، استفادت من كل ما وفرته دول المنطقة لها من ذرائع «أخلاقية» لسلوك سياسي غير أخلاقي. الثلاثاء الماضي اجتمع كبار «جواسيس العالم» في ندوة دعت إليها الاستخبارات الأمريكية رؤساء أجهزة الاستخبارات الكبرى في العالم تحت عنوان: «مهمة أجهزة المخابرات في القرن الحادي والعشرين». جانب من جدول أعمال كبار جواسيس العالم خلال المائة عام الأولى من الألفية الثالثة، أفصحت عنه تصريحات برنارد باجوليه رئيس المخابرات الفرنسية الذي قال في الندوة: «إن الشرق الأوسط الذي عرفناه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد ولَّى إلى غير رجعة»، وأضاف: «أشك كثيراً في عودة الشرق الأوسط يوماً إلى ما كان عليه سابقاً»، موضحاً أن «سوريا مُقسَّمة إلى مناطق يسيطر النظام على أصغر أجزائها، في حين يسيطر الأكراد على شمالها، بينما تسيطر الفصائل الإسلامية الأخرى على مناطق متفاوتة الأهمية.. وفي العراق يتكرر المشهد ذاته». وخلص الى أن أياً من سوريا أو العراق لن تعود إلى حدودها التي عرفناها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أما جون برينان رئيس المخابرات الأمريكية، فقال في الندوة ذاتها: «إن الأوضاع في دول مثل سوريا والعراق وليبيا تطرح أسئلة حقيقية عن الحلول الممكنة في ظل استحالة سيطرة أي حكومة مركزية على الأوضاع فيها خلال وقت قريب»، مشيراً إلى أن ما يجري في دول عديدة بالمنطقة، لا يمكن التعاطي معه بالطرق العسكرية. ما أشار إليه باجوليه، وبرينان، يتعلق أساساً بمصير دول منطقة الشرق الأوسط، وشعوب المنطقة، أي يتعلق بنا نحن في العالم العربي بصفة خاصة، حيث لا يبدو حتى الآن أن أياً من إيران أو تركيا أو إثيوبيا أو إسرائيل، على خارطة إعادة القص واللصق، كما يحدث الآن بالسيف والقنبلة في سوريا وفي العراق. جون برينان رئيس الاستخبارات المركزية الأمريكية، أشار في كلمته أمام جواسيس العالم، إلى (استحالة) سيطرة أي حكومة مركزية واحدة على الأوضاع في سوريا والعراق وليبيا خلال وقت قريب!!.. لاحظوا دقة الرجل، فسيطرة حكومة مركزية على الأوضاع في البلاد المذكورة (مستحيلة)، وتصور إمكانية حدوث ذلك «خلال وقت قريب» لم يُحدِّده (مستحيل) أيضاً، وما يجري بدول المنطقة (لا يمكن التعاطي معه بالطرق العسكرية). برينان إذن يقود متابعيه إلى طاولات التفاوض، التي ينبغي في هذه الحالة أن تنعقد بغرف الخرائط، حيث تتمدد خرائط الدول فوق طاولات التشريح والتقسيم، والقص واللصق، أما نظيره الفرنسي باجوليه، فيقطع باستحالة عودة الشرق الأوسط إلى ما كان عليه، وبأن سوريا لن تبقى بعد أية حروب أو مفاوضات كما كانت قبل مارس 2011، وأن العراق الذي عرفناه حتى مارس 2003 لن يعود أبداً الى ما كان عليه. هل ما يقوله كبار جواسيس العالم بشأن مستقبل منطقتنا حقيقي وصحيح، أم أنها تسريبات «مخابراتية» من لقاء سري لكبار جواسيس العالم، تستهدف سبر أغوارنا، والتعرف على ردود أفعالنا، إزاء مخططات تقسيم، يجري الآن الكشف عنها بكل وقاحة، باعتبار أن الخيار لدينا هو بين أن نموت أو نعيش مبتوري الأطراف؟!!.. في ظني، أن ما قاله باجوليه، لم يتجاوز الحقيقة في أغلبه، وأن المنطقة قد تستقبل دولاً وليدة خلال سنوات ليست بعيدة، قد تكون دولة كردستان هي أولها، مع الإبقاء على إمكانية قيام دولة علوية على منطقة الساحل السوري حيث ينتشر الروس الآن، وربما يتعمد واضعو الخرائط الجديدة ترك منطقة لدولة داعش. الوضع في شمال إفريقيا لن يختلف كثيراً، فطبّاخو الخرائط قد أشاروا إلى استحالة عودة خارطة ليبيا إلى ما كانت عليه، والوضع القائم على الأرض يشير إلى أننا قد نرى ليبيا وقد صارت ثلاث دول، واحدة في الشرق إلى جوار مصر، والثانية في الغرب إلى جوار تونس والجزائر، والثالثة لـ»داعش» في الوسط والجنوب لتستنزف الجوار، وتُوفِّر ذرائع التدخل فيه طول الوقت. التقسيم ليس قدراً محتوماً، ومن تحدَّثوا عنه في قمة جواسيس العالم، ليسوا يد القدر، فما زال بوسع حكماء الإقليم وشعوبه اتخاذ ما يلزم لمنع انفراط العقد. واستأذن الزميل مأمون فندي في استعارة اقتباس كان قد ذكّرنا به مؤخراً نقلاً عن الشاعر العظيم جلال الدين الرومي يقول فيه: ( بالأمس كنت ذكياً فأردت أن أُغيِّر العالم.. اليوم أنا حكيم ولذلك سأُغيِّر نفسي). moneammostafa@gmail.com