يقول "جون نيسبت" في كتابه "التحول الكبير" Megatrend: "من السخف ألا نعيش العصر الرقمي في العصر الرقمي". ويرى "بِل جوي" رائد تقنيات العصر ومخترع برنامج "جافا" الشهير أنه: "يجب أن نتصالح مع العالم الرقمي بالاستجابة إلى متطلباته بما يرتقي بمستوى حياتنا ومعيشتنا، لأن ذلك هو الجانب الإيجابي فيه الذي يجب أن يطغى على سلبياته". في هذا العصر لم تعد الأفكار حتى المتميز منها إنجازا يعتد به، وذلك ببساطة لأن العصر الرقمي الذي نعيش فيه قد سهّل لنا الحصول على الأفكار التي نريد، وفي وقت قياسي، وفي أي وقت وفي أي مجال. فبضغطة زر نستطيع الدخول إلى أي مكتبة والحصول على أي دراسة أو بحث وقراءة الجديد في كل مجال، الأمر الذي كان صعبا فيما مضى. كنا نثني على كل من يتحدث عن فكرة جديدة أو مقترح جديد. ذلك الجزء الأهم من الإنجاز قضى عليه العصر الرقمي، ليبرز سؤالان مُلِحَّان: ما الإنجاز إذن؟ ولماذا نقول هذا الكلام؟ جواب السؤال: الإنجاز هو تطبيق الأفكار وتحقق الأهداف، ونقول ذلك لأننا نرى في بعض المناسبات التي يدشن فيها مشروع جديد، أن الأمر يقتصر على عرض الإنجازات والتحدث عنها في الإعلام، لتخرج لنا تقنيات العصر من صور وأفلام وأحاديث بليغة وقصص جميلة عن إنجازات نقول إننا لا نعرف مدى تحقق أهدافها على أرض الواقع، ودون تحفظ نقول إن الهدف الأساس من عرض تلك الإنجازات هو ذر الرماد في العيون لمجرد عرضها ونشرها إعلاميا، والأمثلة على ذلك كثيرة في كل القطاعات. لا بد أن نعرف ويعرف أي مسؤول أن الأحاديث البليغة والقصص الجميلة لم تعد إنجازا. ولا بد أن نعرف ويعرف كل مسؤول أن عرض الإنجازات المبهر بواسطة تقنيات العصر لم يعد إنجازا. الفكرة المتميزة شيء جيد، وتبنيها أمر مطلوب، وعرضها وإطلاع الجمهور عليها متطلب أساس، لكن كل ذلك لا يكفي لأن نقول إن إنجازا قد تحقق. فمتى نقول بعد كل ذلك إننا أنجزنا؟ الجواب: هو أن تقترن مع الفكرة المتميزة أمور عدة مهمة جدا لتحقق الإنجاز الذي نريده من الأفكار والمشروعات التي نطرحها ونعرضها ونتبناها وهذه الأمور هي: أولا: أن نعرض مع الفكرة أو المشروع الذي نتبناه آليات تطبيقه بشكل عملي. ثانيا: أن يتضمن المشروع خطة عمل تتضمن: أ- المسؤول عن المشروع ب- زمن تطبيق المشروع على أرض الواقع ج- المعوقات في حال تأخر تنفيذ أي مرحلة من مراحل المشروع د- أسباب تلك المعوقات "سواء كانوا أشخاصا أو جهات حكومية أخرى أم أي أسباب فنية" هـ- المسؤول عن معالجة تلك المعوقات و- الوقت المطلوب لمعالجة تلك المعوقات ز- هل تمت معالجة تلك المعوقات وتحققت أهداف المشروع أم لا؟ بهذا المستوى نتعامل مع كل فكرة جديدة متميزة كي تحقق أهدافها ونقول بشواهد وأدلة وأمثلة -لا بأحاديث منمقة وقصص جميلة- إننا أنجزنا. استعرضوا أمامكم بعض الأفكار المطروحة لعلاج بعض مشكلاتنا الملحة، تجدونها عرضت بشكل جميل وألوان أخاذة وتقنية متقدمة ولغة بليغة، لكنها وبعد مرور سنوات عليها لم تحقق الأهداف بالمستوى الذي كان متوقعا، أو أنها لم تحقق أي هدف. هذه معضلة كبيرة تتعرض لها مشروعاتنا وأفكارنا الجميلة. نحن نصفق بحرارة عند عرض بعض مشروعاتنا وأفكارنا، لكننا نفاجأ بعدم تحقق الأهداف. التصفيق يجب ألا يكون عند الإعجاب الشديد بالفكرة أو المشروع، بل عندما تكون هناك أرقام وشواهد وأدلة وأمثلة واقعية على الاستفادة الحقيقة من تلك الأفكار والمشروعات. يقول بل جيتس في كتابه "إنجاز العمل بسرعة": "اعرف أرقامك". ففي أي عمل، الأرقام هي التي يجب أن تتحدث وفق ما عرضته في إجابتي عن التساؤل: متى نقول إننا قد أنجزنا؟ يجب أن نعترف أننا أمام مشكلة حقيقة في إنجاز مشروعاتنا وعرض أفكارنا، يجب أن نعترف أننا نهتم بعرض أفكارنا والحديث عنها أكثر من الاهتمام بتحقق الأهداف. لا أعرف أن كل مشروعاتنا التي نتبناها تتضمن آلية تطبيق منذ النشأة حتى تتم ترجمتها على أرض الواقع وتحقق أهدافها. والشيء المؤسف أحيانا أننا نبرر إخفاقات تحقيق بعض المشروعات لأهدافها، وهنا ننزلق في ثقافة التبرير بوعي أو دون وعي، لكن الوطن أثمن من أن نبرر الإخفاقات. والمؤسف أيضا أننا بحكم تعمقنا في بعض المشروعات ومعرفة أدق التفاصيل نقوم بعرض مبررات ليست واقعية، مستغلين جهل المتلقين أو المستفيدين من تلك المشروعات، وهذا النوع من التبرير هو في الواقع فشل، شئنا أم أبينا. أستطيع سرد كثير من المشروعات المهمة والأفكار المتعددة التي يتم تبنيها الآن ولم تحقق أهدافها، ولم يتم توقيفها أو تطويرها أو الاعتراف بفشلها. لكنني أفضل تقديم المقترحات –كما أعلاه- لنجاح الأفكار والمشروعات الجديدة فربما كان فيها حل لهذه المشكلة الثقافية أولا، والإدارية ثانيا.