شهدت الكثير من معالم الحياة الثقافية والفنية تدهورا وتراجعا كبيرا إثر الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وكان من بين ذلك صناعات وحرف اشتهرت بها البلاد عقودا طويلة، بعد أن ترك العنف وصراعات السياسة بصماتهما على كل تفاصيل الحياة في بلاد الرافدين. صناعة آلة العود هي إحدى ضحايا هذه الأوضاع الاستثنائية، فهذه الحرفة التي أنتجت العود العراقي الذي ذاع صيته عربيا وعالميا، تكاد تلفظ اليوم أنفاسها الأخيرة، إذ تمتلئ الأسواق العراقية اليوم بآلات العود المستوردة؛ بينما لم تعد المعامل المحلية تنتج آلات بنفس المواصفات القديمة المعروفة عنها، مع ارتفاع معدلات هجرة صنّاعها الذين يجدون فرصا أفضل في دول أخرى. ويتهم بعض أصحاب هذه المعامل وزارة الثقافة -ودائرة الفنون الموسيقية فيها تحديدا- بالمسؤولية عن هذا التدهور، حيث كانت الوزارة في السابق ترعى هذه الحرفة وأصحابها وتوفر لهم مستلزمات عملهم، لكنها اليوم -كما يقولون- تخلت عنهم تماما، وانشغلت برعاية بعض المثقفين والفنانين المتملقين للسلطة والموالين لبعض الأحزاب، على حد تعبيرهم. وللاستيضاح عن هذه الاتهامات، اتصلنا بمدير دائرة الفنون الموسيقية بوزارة الثقافة حسن الشكرجي، لكنه رفض الإدلاء بأي تصريح دون إبداء أسباب لذلك. يندر في أسواق بغداد اليوم وجود أعواد عراقية مصنوعة وفق المواصفات القديمة(الجزيرة) غياب الكبار وعبر عدة عقود، لمعت أسماء لبعض صانعي العود العراقيين كان من بينهم حنا عواد الموصلي، وعلي العجمي، لكن أشهرهم كان محمد فاضل الذي ذاع صيته عربيا وعالميا. التقينا بابنه عمر محمد فاضل في منزله بمنطقة الأعظمية، حيث حوّل شقته الصغيرة إلى معمل لصناعة الأعواد، في ذات الوقت الذي يحاول فيه إعادة افتتاح معمل والده الذي توقف عن العمل قبل سنوات. يقول عمر محمد فاضل إن صناعة العود الواحد تستغرق أسبوعا بمعدل ثماني ساعات يوميا، ويجب ألا يزيد وزن العود عادة على كيلوغرام واحد، وتحتاج صناعته إلى مهارات خاصة تكتسب بمرور الوقت. ويضيف فاضل للجزيرة نت أن هذه الصناعة في العراق تدهورت أحوالها في السنوات الأخيرة بعد أن قفز إلى الواجهة بعض "الدخلاء" على حد وصفه، الذين هم أقرب إلى النجارين منهم إلى العوادين، حيث يجهل أكثرهم العزف على الآلة، وقد راجت في السنوات الأخيرة أعوادهم "التجارية" ذات السعر الرخيص والجودة الرديئة. صانع العود العراقي عمر محمد فاضل(الجزيرة) ويستعيد عمر بعض ذكرياته عن والده، فيقول إن أول عود صنعه والده كان عام 1932 بعد أن افتتح آنذاك معملا في منطقة الحيدرخانه وسط بغداد، وأصبحت له شهرة محلية وعربية، مما جعله مقصدا للكثير من الفنانين والملحنين العراقيين والعرب لصنع أعوادهم الخاصة، كالأخوين منير وجميل بشير، وفريد الأطرش ووديع الصافي وبليغ حمدي وآخرون. ويتهم عمر محمد فاضل دائرة الفنون الموسيقية بالتقصير في عملها لحماية هذه المهنة ورعايتها، حيث يقول إن الورشة التابعة للدائرة معطلة منذ 13 عاما لم تصنع خلالها عودا واحدا، في الوقت الذي يتقاضى موظفوها رواتبهم من الحكومة دون أي عمل على حد قوله، ويشتكي من الإهمال الذي يعيشه صنّاع الآلة الذين يضطرون للسفر على حسابهم الخاص للمشاركة في المهرجانات العربية والدولية. نسخ تجارية لكن عازف العود أحمد سليم غني يخالف هذا الرأي المطروح في الساحة الفنية، حيث يعتبر أن هذه الحرفة ما زالت بخير، معتبرا الأنواع التجارية الموجودة في السوق أمرا طبيعيا موجودا في كل دول العالم، ويضيف أن الصناع الجدد اليوم أضافوا الكثير من الزخارف والألوان وأنواع الخشب المستخدمة في صناعته، مما أسهم في استمرار ريادة العود العراقي، على حد تعبيره. لكن يوسف خليل بائع الأعواد في منطقة باب الشرقي في بغداد، يقول إن الأنواع الجيدة من هذه الآلة يكاد ينعدم وجودها في السوق اليوم، لسبب رئيسي هو أن الأعواد الأصلية المصنوعة بمهارة تقليدية تبلغ أسعارها ما بين ألف و1500 دولار على الأقل، بينما توجد أنواع تجارية يبلغ سعر الواحد منها خمسين دولارا فقط.