.. كان الرجلُ الحكيم يجول في الجبل، وفجأة غطست قدماه في جدول صغير يتدفق من خلف الصخر، ورأى حجرا عظيما، غير أنه ليس حجرا عاديا، بل حجر يسلب النظر بأشعته وألقه وشفافيته المتكسرة ألواناً مبهرة.. تناوله، فإذا هو ألماسة كبيرة الحجم تشكل ثروة تغني أي إنسان طيلة عمره. فضعها الرجل الحكيم في حقيبته الجلدية ومضى في سبيله، حين صادف رجلا جائعا، فطلب منه الجلوس ليشاركه طعامه. فتح العجوزُ حقيبته ليخرج الطعام، فرأى الرجلُ الجائعُ الألماسة تبرق من داخل الحقيبة، وطلب من الرجل الحكيم أن يعطيهِ إياها. مد الرجلُ الحكيمُ يده داخل الحقيبة وبكل تلقائيةٍ ناول الرجلُ الألماسة العظيمة. وراح الرجلُ الجائع يرقص ويغني، فقد حصل على ثروةٍ طائلة. ولكن بعد أيام قليلة رجع الرجلُ ومعه الألماسة يبحث عن الرجل الحكيم، وعندما وجده، ناوله الألماسة قائلا: لم أعد أريدها رغم ما تحمله من ثروة كبيرة. وسأله الحكيم: لماذا تُرجِع الألماسة؟، فرد الرجلُ قائلا: أنت أعطيتني وبسهولة بدون أي تردد هذه الألماسة العظيمة الثمن والقيمة، فخذها، وأعطني هذا الشيء الذي بداخلك الذي يجعلك تعطي الألماسة بلا تردد. .. وإني أسمّي ذلك الشيء.. الثروة المستدامة. نعم لدينا ألماسة كبرى في هذه البلاد، وألماستنا هذه هي النفط.. ولكننا لم نكن مثل ذلك الحكيم، الذي مد ثروته المادية القابلة للنهاية بلا اكتراث؛ لأنه يعلم أن لديه ثروة داخلية لا تنضب. لن أنتقد، وما رأيت في الانتقادِ فضلا، بل هو يؤجج العواطف، ويُعمي الأفكار، وأنا هنا أريد استحضار الأفكار صافية محايدة.. كي نضع الحلولَ لمشكلات صنعناها لأننا لم نُجـِدْ إدارة الثروة الناضبة، ولم نحسن إدارة الثروة التي لا تنضب. هل فات الأوان؟ لا، الأوانُ لا يفوت، ولكن كلما طال الزمن بدون الالتفات بحساب القيمة النفعية المستدامة إلى ثرواتنا، تعقدت وصعبت الحلول. ضاعت مليارات المليارات خلال العقود الماضية، وما زلنا نعاني المشكلات الكبرى التي تعانيها الدول التي لم يَمُنُّ الله عليها بالنفط، أو أي ثروة كبيرة في باطن الأرض أو خارجها. نعم أنجزنا الكثير، ولكن الكثير الذي ننجزه لا يتقدم للأمام نفعا أو صيانة، فتتآكل رؤوس أموالنا على الأرض؛ لأننا لا نملك فن المتابعة والتنمية والصناعة. أخذنا في البداية الزهوُ بأنفسنا وثروتنا فبنينا معمارا ضخما، ولكن ما نفع المعمار بلا تروس، وما معنى الفم بلا ضروس. أخذتنا عظمة المظاهر فترى المكاتب الفخمة الهائلة في الوزارات والمنشآت الرسمية، ولو قسنا المتر منها بقيمة إنتاج من يحتلها، مع قيمة المتر في المكاتب الصغيرة في اليابان أو فنلندا أو ماليزيا أو الهند أو كوريا، أو حتى شركة مثل أرامكو، لكانت الكفة ترجح وبفارق كبيرة للمكاتب الصغيرة.. تفخّمت لدينا ثقافة المظاهر ليس في العمران فحسب بل حتى في الملبس، وصار البشت الذي هو لباس وطني جميل، يأخذ معنى أبعد ليكون البشتُ القماشُ يعطي للإنسان هيبته، وليس في منفعته وانتفاعه وعمله وإنتاجه.. وحتى الناس تسابقوا في هذا المضمار، واعتبر الشكلُ قيمةً تفضيليةً للفرد. لم أعرف حضارةً على مرّ التاريخ الإنساني تعطي للمظهر في الزي ذلك التقدير إلا في حضارات تمزج اللبس مع القداسة في العبادة الوثنية، أو الدينية الكهنوتية، ويبقى الناسُ كلهم في صيغتهم الإنتاجية هي المقياس الحقيقي. كي نغير مسارَ هذه الأمة نحو مسارات التقدم الحقيقي، يجب أن نراجع أنفسنا، ونسأل بصراحة: لمَ صرفنا أموالا تعدت أموال قارون، وما زالت لدينا علامات الإنذار الأولى لأي مجتمع ولأي أمة، وهي الخلل في البنى التحتية، الضعف في المرافق والخدمات، والفقر الذي نريد أن نسدّه هنا فينبع من هناك.. لمَ هذه الصدوع الكثيرة في جدار الأمة، الذي نريده واحدا صلدا بلا شقوق ولا صدوع.. تجد حتى فرقتنا نتجت عن أشياء مظهرية أو حتى أحيانا ساذجة ثم تتعمق وكأنها محاور حياتنا. هناك أشياء أكبر من البترول، وأثمن من ألماسة الرجل الحكيم، وهي الثروة المستدامة.. لم يتردد الرجلُ الحكيم وهو يسلم ألماسته الثمينة للرجل الجائع، فهو يعلم أنه يملك شيئا بالأكيد باقيا لا يزول.. ونحن، ما عندنا لو نضب النفط.. وهو سينضب؟! لنؤسس مجلسا حقيقيا من أدمغة لامعة من كل العلوم والاهتمامات، ومحايدة، وجادة، ووطنية، ولا يلين رأسها لأحد، وتعرف مسؤوليتها أمام الديّان العظيم.. وتسأل هذا السؤال: ما الذي جعل ذاك الرجل الحكيم يمد ماسته بلا طرفة عين؟ وستجد أن الإجابة أن لديه ثروة دائمة أعلى منها. فأين ثروتنا الدائمة؟! إن لم نجدها، فلنعمل الآن على إيجادها؛ لأن الفرص لا تتكرر.