حين تقرر أن تكون قارئا أو كاتبا نهما أو مهتما بالشأن الحقوقي أو السياسي أو معرضا حياتك للخطر أو دائم الأسفار أو شغوفا بوظيفتك أو تخصصك أو فنك، حين تهب حياتك لجهة ما أو أيديلوجية ما أو مؤسسة ما، حين تقرر أن تذهب بطريقك يمينا أو شمالا، أو حتى حين تقرر التوقف.. حينها ستقوم الحياة بعملية فك وتركيب للعلاقات والأصدقاء والمقربين. سيلاحظ كثيرون من أصدقاء الأمس أن لا مكان لهم اليوم، لن ينطق أحد ولن يلوم أحد ولن يعتب أحد، فقط سيشعرون بيقين ودون مواربة أن لا مكان لهم في عالمك الجديد. والعكس بالعكس، سينادي مناد خفي في الكون بأن طريقك قد اتخذ طريقا جديدا، وسينبعث الأصدقاء من حيث لا تعلم ولا يعلمون، سيظهرون فجأة، وسيجدون مكانا رحبا لهم في عالمك الجديد. وكما أن مساراتنا قرارات، فكذلك الشعور قرار. أن تقرر أن تكون فرحا أو حزينا أو يائسا أو متفائلا أو محبا أو كارها، حين تقرر أن تكون كذلك، ستقوم الحياة بعملية فك وتركيب للعلاقات أيضا، ليس كل من رآك فرحا سيطيق عالمك الحزين الجديد، سيرحلون بصمت، وستبعث الحياة لك حَزَانى من كل مكان. تمر بنا حوادث مختلفة، لكن شعورنا تجاهها هو قرارنا، ويجب علينا أن نتخذ هذا القرار بكل شجاعة وجرأة، هناك فرحون بلا فرح، وهناك حزينون بلا حزن. وليس من حق أحد أن يصادر قرارك بشعورك، بل من حقك على الناس والحياة أن تحترم ذلك. قد نواجه موقفا مؤلما ثم تمضي بنا الحياة وننسى، ثم قد نقرر أن نبقى في ذلك الحزن أو أن نمضي. قد يكون شعورنا حقيقيا وقد يكون مزورا، ومثله الفرح، ومثله الفقد، ومثله التفاؤل. وفي كل حالة سيبتعد أناس ويقترب آخرون، سيقترب أناس منك حين تكون حزينا بالحزن، وسيقترب آخرون حين تكون فرحا وسط الأحزان، وسيقترب آخرون حين تكون فرحا بلا فرح، وسيقترب آخرون حين تكون حزينا وسط الأفراح.. لا تقلق.. فكلما مضى صديق بعثت الحياة مكانه آخر، يغريهم شعورنا وتلاوتنا الدائمة لقراراتنا بخطاب وسلوك غير مباشر. قد يكون قرار الشعور معلنا وقد يكون خفيا، فبعضها نتخذها بوعي منا، وبعضها الآخر يتخذها لا وعينا. ليس كل من قرر أن يعيش ويبقى في تجربة سابقة هو يدرك ذلك. ولكن أليس من الخسارة بمكان أن نعيش تجاربنا الحقيقية دون أن نقرر شعورنا تجاهها، لقد وقع الحدث فما بالنا نهرب منه، والأغرب أن كثيرين ممن يبحثون عن المعنى في الحياة يفرون منه حين يلقيهم القدر أمامه، يهابون عمقه، ويبحثون عن معنى آخر يمكنهم السيطرة عليه. والمعنى حين يأتي يكون حرا طليقا كجواد جامح، يقف أمام الند للند. بل كغول يبتلعك، أو كعملاق في حلبة يعجنك ويعيد تكوينك، لا تملك أن تبقيه أو أن تصرفه، وهو ليس ثوبا جاء بمقاسك ليجعلك أكثر أناقة، لقد جاء بقوته وعنفوانه، جاء ليفرض عالمه الجديد، وليبقي ما يريد وينفي ما يريد، لقد جاء المعنى ليعيد إنتاج حياتك، ولأننا ندرك ذلك في أعماقنا فإننا نفر منه، ونبقى نكتب عنه ونتساءل: اين المعنى؟! حين تقرر أن تحب أو تكره الحياة، أن ترضى أو أن تغضب عنها، فبعض الأصدقاء والمقربين من فرط حبهم لك سيحاول جهده أن يتكيف مع عالمك الجديد، وقد يفلح وقد تخذله قوته فيمضي. وآخرون سيبقون خياراتك القديمة المتوائمة مع خياراتهم في خانة الوفاء، وسيرحلون مبكرا، وسينظرون إليك من بعيد في كل مرة يتقصون أخبارك. وحدهم من يحبونك لذاتك سيبقون ويصرون على البقاء، وسيعانون كثيرا، وستعاني أنت كذلك معهم. ليس العيب هنا ولا هناك، هي مجرد لعبة الحياة.. نمضي وتستمر علاقاتنا بالفك والتركيب.