كان القدر يخطط لهما مساراتهما العلمية وشؤونهما الحياتية، حين كتب عليهما أن يكونا معاً في أيام المحنة والرخاء، بل إن أحدهما كان يترسم خطى الآخر في الحياة والموت، فالصرخة الأولى في الوجود أطلقها محمود أمين العالم في العام 1922 تجاوب صداها لدى عبد العظيم أنيس في العام التالي مباشرة، ومضت بهما الحياة كأنهما توأم، منذ أن انخرطا في الحركة الوطنية المصرية، إلى أن لفظا أنفاسهما الأخيرة في يناير عام 2009 بفارق أيام بين الوداعين الأخيرين. ما بين الميلاد والموت تشابكت المصائر بصورة كبيرة، فكلاهما انضم إلى التنظيمات اليسارية قبل ثورة يوليو 1952 وبعدها، وكلاهما ذاق نيران الاعتقال في التوقيت ذاته، سواء كان ذلك في مصر الملكية أم الثورية، وكلاهما تخصص في دراسة فرع علمي دقيق، فالعالم كان أستاذاً في الفلسفة، وأنيس عالماً في الرياضيات والإحصاء، وحين جرت مذبحة الجامعة كان الاثنان مفصولين من العمل، حتى حين التحق أحدهما بالعمل في مؤسسة أخبار اليوم (العالم) كان الثاني يعمل في صحيفة المساء بدعوة من خالد محيي الدين، وحين أنهى العالم علاقته بإدارة دار الكاتب العربي، كان أنيس يحتل ذلك الموقع الوظيفي. وشهدت أولى كتاباتهما توقيعاً واحداً: عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، وحين جمعت هذه المقالات في كتاب حمل عنوان في الثقافة المصرية صدرت طبعته الأولى في بيروت عام 1954 بتقديم للمفكر الكبير حسين مروة، هذه المقالات كانت تشكل معركة أدبية خاضها الشابان الصغيران آنذاك في مواجهة طه حسين والعقاد، وكشفت عن ناقدين قادمين بثقة، فالقاعدة تقول: نظيرك من ناظرك. بدأت شرارة المعركة بمقال كتبه طه حسين في جريدة الجمهورية بتاريخ 5 فبراير 1954 وعنوانه صورة الأدب ويقرر فيه أن صورة الأدب ومادته شيئان لا يفترقان، أو هي شيء واحد إن شئت، وأضف إليهما عنصراً ثالثاً، إن صح أن يستعمل العدد في مثل هذا الموضع، وهذا العنصر يلزمهما لزوماً لا فكاك منه، وهو عنصر الجمال. وينهي طه حسين مقاله قائلاً: وما أدري أيفهم أدباء الشباب هنا الأدب على هذا النحو، أم لهم فيه مذهب آخر، فإن تكن الأولى فعند الصباح يحمد القوم الثرى، كما يقول المثل القديم، وإن تكن الثانية، فما أشد حاجتي إلى أن أقرأ لهم، وأفهم عنهم، وما أشك في أني سأنتفع وسأستمتع بما يكتبون. استجاب العالم وأنيس لدعوة العميد، ونشرا مقالهما المشترك في جريدة المصري بتاريخ 14 فبراير 1954 وعنوانه الأدب بين الصياغة والمضمون من عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم إلى عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وأشارا إلى أن العمل الأدبي، صورته ومادته، ليس لغة ومعاني، بل هو تركيب عضوي يتألف من عمليات بنائية، تتكامل فيها الصورة والمادة تكاملاً حيوياً، أما العنصر الثالث الذي يسميه عميد الأدب بالجمال، فإننا نعده مفهوماً غامضاً، فلا يصلح للكشف عن مقومات العمل الأدبي. وفي معرض مقالهما عرجا على بيت شعري للعقاد، مع التأكيد أنه مثله في ذلك مثل بقية أدبائنا القدامى، لا يبصر بالظاهرة الأدبية في الوحدة العضوية المتكاملة للعمل الأدبي، وإنما في البيت، في المعنى، في النادرة اللطيفة، في العمارة المفردة، هذا هو جوهر أزمتنا التعبيرية في الأدب المصري الحديث، وهذا هو مصدر ما يعانيه نقدنا الأدبي من جمود وقصور وعجز. وبدخول العقاد على خط المواجهة أخذت المعركة وجهة أخرى، رغم أنه لم يكن مقصوداً لذاته، بل جرى الاستشهاد ببيت شعري له، لتأكيد وجهة نظر العالم وأنيس، ففي 14 فبراير 1954 نشر العقاد مقاله إلى أدعياء التجريب: اقرأوا ما تنتقدونه.. إلى الدكتور طه حسين: اقرأ كتب التحليل، وينبغي أن نشيد بجهود صلاح عطية الذي جمع في عدة أجزاء طه حسين ومعاركه الأدبية لأن مقال العقاد كان ضائعاً لولا بحثه الدؤوب عنه. بنبرة متعالية يسجل العقاد أول هدف في مرمى خصميه، فهو كما يقول لا يحفل بالأقاويل التي تكتب عنه في بعض الصحف، وأنه قلما يتم قراءتها إذا بدأ فيها، ويغمز الكاتبين حين يقول: وهما فيما علمت أستاذان في مدارس ثانوية أو عالية، ويالخيبة الأدب والتعليم إن صح ما علمناه، ويستعرض ما قدمه في الأدب العربي شعراً ونقداً ومنهجاً، مختتماً ذلك كله بقوله: وجب على هؤلاء الأدعياء، إن كان لهم نصيب من أمانة الثقافة، أن يدعوا هذه المماحكة، ولا يضللوا بقرائهم فيخدعوهم باسم الأدب، وهم لم يطلعوا على حرف مما ينتقدونه، ويفترون الكذب على ذويه. يأتي ضمن مقال العقاد أنه لا يناقش، بل يدعو لضبط هؤلاء الأدعياء، على حد تعبيره، وسخرية بسخرية رد الكاتبان الشابان في جريدة المصري بتاريخ 7 مارس 1954 بمقال عنوانه عبقرية العقاد وفي البداية تهكما: وأخيراً تنازل وتكلم العقاد، ووجه إلينا الخطاب باعتبارنا أدعياء التجديد، وهو شرف لو يعلم الناس عظيم، لأن العقاد مشغول عما يثيره الأدعياء في مسائل الأدب والثقافة بما هو أهم من هذا وذاك، ربما بمسائل حكم الأرض وربما بمشاكل حكم السماء وينتهي المقال برجاء يوجهانه إلى العقاد: أما الرجاء فإننا نوجهه إليك في خشوع يا مولانا الكاتب العبقري، وهو أن تقرأ هذا المقال لعلك تفهم.