من يتأمل في رحلة «الرئيس السوري» بشار الأسد إلى موسكو الأسبوع الماضي سيلمح فيها مؤشراً آخر على أن السؤال لم يعد هل انتهى حكم عائلة الأسد، وإنما كيف ومتى ستكون هذه النهاية. أول ما يلفت النظر في هذه الرحلة أنها أولاً كانت على درجة عالية من السرية. قد يقال إن السبب هو الخوف من استهداف طائرة «الرئيس» من مقاتلي المعارضة. وهذا قول واهٍ ولا أساس له، لأن أبرز ما تعاني منه هذه المعارضة أنها محرومة من أي سلاح مضاد للطائرات، ولو كان لديها شيء من ذلك لاستخدمته لحماية نفسها ومن يقطن في مناطقها من براميل الأسد، ومن طائرات بوتين لاحقاً. لماذا السرية إذاً؟ خوفاً على الأسد من داخل النظام، وليس من خارجه. وهذا ليس بالضرورة لأن الرجل لم يعد مقبولاً داخل الحلقة الضيقة، وإنما لأن الجميع، داخل سورية وخارجها وداخل دهاليز النظام نفسه، بات يدرك بأن كلفة بقاء الأسد تتضاعف يوماً بعد آخر، وأنها تطاول الجميع. وبالتالي قد يخطر ببال أحد بأن إزاحة «الرئيس» أصبح ثمنها أقل كلفة من بقائه. يعزز هذا أن دور الأجهزة الأمنية السورية، وهي كثيرة، بما في ذلك الفرقة الرابعة بقيادة شقيق «الرئيس»، لم تعد كافية لحماية أمن «الرئيس». أصبح لـ «الحرس الثوري» الإيراني والاستخبارات الإيرانية دور مركزي في ضمان أمن «الرئيس». ثانياً أن الأسد ذهب إلى موسكو لوحده. لم يرافقه أحد من كبار المسؤولين. ثالثاً أنه ذهب بدعوة، أو استدعاء من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وإذا كان الأسد، وليس بوتين، هو من في حاجة ماسّة إلى الرحلة وما قد ترمز إليه من فك للعزلة، فلماذا جاءت الدعوة من موسكو ولم تأتِ المبادرة من دمشق؟ رابعاً، هل ذهب الأسد بطائرة سورية أم روسية؟ تشير المعطيات إلى أنه ذهب بطائرة روسية وليست سورية، لضمان حمايته وللتأكيد لكل من يهمه الأمر، داخل سورية تحديداً، أن الأسد تحت المظلة الروسية. خامساً، لم يتم الإعلان عن الرحلة إلا بعد عودة الأسد إلى بلاده بأمان. لم يعرف السوريون أن «رئيسهم» قام أخيراً، وبعد حوالى خمس سنوات من العزلة، برحلة إلى الخارج إلا بعد انتهائها. هل فوجئ بعض كبار المسؤولين، سياسيين وأمنيين، بالزيارة أيضاً؟ لا يمكن استبعاد ذلك، لأن المعطيات المحيطة بالرحلة لا تعطي تأكيداً حتى الآن إلا لشيء واحد، وهو أن «الرئيس» زار موسكو واجتمع وحده مع بوتين، ثم عاد. الشعب السوري الذي يقول الأسد إنه يعتمد عليه وإنه يجب أن يشارك في تقرير مستقبل سورية، لا يعرف شيئاً عن رحلته التي قد تكون أهم وأخطر رحلة في حياته، وحياة سورية. وأكثر ما يلفت النظر في زيارة موسكو، أن الأسد ذهب وحده، وهو أمر بحد ذاته يجعل منها زيارة فريدة من نوعها. حتى وإن كان قرار ذهابه على هذا النحو قد تم التوافق عليه مع كبار المسؤولين السوريين، وهذا ليس بالضرورة ما حصل، نظراً لطبيعة النظام السياسي وطبيعة الأزمة المحيطة به، إلا أنه لا يغير من دلالة الخطوة قيد أنملة، فذهاب الأسد إلى موسكو، أو دعوته، أو استدعاؤه إلى هناك، لا يعني إلا شيئاً واحداً، وهو أن الأمر يتعلق به هو شخصياً، وليس النظام السوري. لأنه بالتوازي مع ذلك هناك ما يشبه الإجماع السوري والإقليمي والدولي على ضرورة بقاء هيكل النظام السوري تفادياً لتكرار ما حصل للعراق في أعقاب الغزو الأميركي. ما عدا ذلك، يتمحور الخلاف الكبير حول مستقبل «الرئيس» نفسه في هذا النظام. مرة أخرى، لا ترى الغالبية السورية والإقليمية والدولية مستقبلاً للأسد بعد كل ما حصل من دمار وما سال من دماء، غطت الخريطة السورية بشكل غير مسبوق في تاريخ هذا البلد، بما في ذلك حكم البعث الذي تحت غطائه تم توريث بشار. حتى موسكو تعرف أنه لم يعد للأسد مستقبل في سورية. وقد صرح بذلك إما مباشرة أو مداورة مسؤولون روس كثر. وفي نهاية المطاف، هذا أمر لا يعني موسكو كثيراً. ما يعنيها الآن هو المرحلة الانتقالية، وكيفية تأمين الدور الروسي وموقعه في تقرير مستقبل سورية. تمسك الرئيس بوتين بمقولة أن الشعب السوري هو من يجب أن يقرر مستقبل «الرئيس السوري» في هذه المرحلة، يصب في هذا الاتجاه. وهو تمسك بات جلياً في الاجتماع الرباعي في فيينا الجمعة الماضي الذي ضم وزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وتركيا. هل يتمسك بوتين بهذا الموقف ويصر عليه؟ هو يدرك الكلفة العالية لذلك. سيطيل أمد الصراع بأكثر مما ينبغي، وسيضع موسكو أمام أغلبية سورية وعربية ودولية، وسيزيد بالتالي من عزلتها بدلاً من تخفيفها كهدف للتدخل العسكري في سورية أصلاً. سيكون على موسكو وحدها في هذه الحال تحمل كلفة إطالة أمد الصراع عسكرياً وسياسياً وأخلاقياً، ومن دون مردود يبرر ذلك. يعرف بوتين أيضاً أن إيران وحدها هي من يتمسك بالأسد لأسباب طائفية لا علاقة لها بمقولته بأن «الشعب السوري هو من يجب أن يقرر مستقبل الأسد». كما يعرف كيف تم توريث بشار في ظل هذا الشعار، وتحت قبة «مجلس الشعب». ومن ثم، فإن إصراره على بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية سيجعل من استراتيجيته رهينة حسابات طائفية تخص الأسد وأعوانه المقربين، وتخص إيران وليس موسكو، ولا قبل ذلك وبعده الشعب السوري. الحقيقة أن الطائفية هي الكلمة المفتاح للتاريخ السياسي القصير لبشار الأسد. ورث الحكم عن أبيه لأسباب عائلية وطائفية، وأطلق حملته الأمنية الشرسة منذ اليوم الأول للثورة خوفاً من عودة الغالبية السنية السورية إلى الحكم. عمّق التحالف السياسي والعسكري مع إيران لأنه يعرف أنها الأكثر حرصاً منه على إبعاد وإخضاع هذه الغالبية لأسباب طائفية. قبِل الأسد، في هذا السياق، أن تأتي الميليشيات الشيعية من كل حدب وصوب، بتمويل وتسليح إيراني، لحمايته. ربما هو لم يتمنَّ أن تنكشف الأمور وتنتهي إلى ما انتهت إليه. كان يأمل في وأد الثورة في درعا كما فعل والده في حماة عام 1982. لكن الوضع خرج عن السيطرة، وانتهى الأمر به أن أصبح تحت حماية إيران وميليشياتها بغطاء طائفي معلن. الأنكى أن هذه الحماية لم تكن مكلفة وحسب. تبين أنها موقتة، ولا تستطيع تأمين بقائه. والسؤال هنا لا يتعلق فقط بأن الأسد بحث عن منقذ لدى روسيا، وإنما أيضاً بحقيقة أن المسار السياسي للوريث وما انتهى إليه انعكاس للمسار التاريخي لحزب البعث السوري نفسه، الذي تم تهميشه هو أخيراً وأخرج من اللعبة السياسية تماماً. بدأ هذا الحزب كتنظيم قومي عربي، مناهض لكل ما يتعارض مع هذا التوجه. كان هدفه إيجاد إطار وطني ثم قومي تتلاشى فيه الحدود الدينية والمذهبية والعرقية بين الغالبية والأقليات. تبنى الحزب شعاراً باذخاً «أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة». لكن المسار السياسي لهذا الحزب كان يأخذ بشكل متدرج وتصاعدي وجهة تتناقض مع كل ذلك. بدأت تسيطر عليه في البداية قيادات تنتمي للأقليات وللمؤسسة العسكرية. ظهر ذلك جلياً في ما عرف لاحقاً باللجنة العسكرية التي ستخطط للانقلاب بعد الانفصال عن الوحدة مع مصر. وعندما حصل ذلك، كانت السيطرة للضباط العلويين. ظهر ذلك جلياً أثناء حكم صلاح جديد بغطاء سني. بعد انقلاب عام 1970 أصبح حافظ الأسد أول علوي يترأس الدولة السورية. لم يرَ السوريون غضاضة في ذلك. وبالتالي كان يمكن أن يكون هذا التطور استئنافاً وترسيخاً للحمة الوطنية التي عرف بها الشعب السوري. لكن حكم الأسد كان في العمق استمراراً لمسيرة الحزب. ثم جاء التوريث لابنه كذروة أخرى في هذه المسيرة. وأخيراً جاءت الثورة وكشفت الغطاء عن حقيقة هذا الحكم، وحقيقة تحالفه مع إيران، ثم ارتهانه أخيراً لحماية الميليشيات على حساب الدولة ذاتها. مسيرة حزب البعث، وما انتهى إليه، والحكم الذي دشنه في سورية تكشف من ناحية وطأة البنية الاجتماعية، وضعف الفكر السياسي وتطلعاته أمام هذه البنية. وتكشف من ناحية أخرى عن مأزق الحكم في الثقافة العربية، وأن هذا المأزق هو ما يسمح لمثل هذه الانحرافات المدمرة بأن تكون هي النمط أحياناً وليس الاستثناء الذي يمكن تهميشه بسهولة. لم يدرك الأسد الابن بأن إطلاقه الحل الأمني أمام الثورة في محاولة لحماية نفسه وحكمه، إنما دفع بتفسخ البنية الاجتماعية إلى ذروتها، ومعه جرف إمكان بقائه أو بقاء حكمه. كلفة هذه النهاية باهظة جداً على الشعب السوري، وهي كلفة لم تصل إلى خواتيمها بعد. لكن لم يعد من الممكن وقف هذا المسار. هو مسار انطلق وسيصل إلى نهايته. وفي ذلك درس ليس فقط للسوريين، بل لكل دول المنطقة وشعوبها.