كان الحراك المدني الذي انطلق سلمياً منذ الإعلان عنه، جواباً عن مصادرة الطوائف الحياة السياسية اللبنانية، وتمرداً على السلطات القائمة، وهو ما أعطاه صفة حراك عابر للطوائف نفسها. يتشابه الحراك اللبناني مع الحراك العربي في نقطة السعي الى استعادة السياسة من الشعب، بعد أن صادرتها أنظمة الاستبداد في العالم العربي والطوائف في لبنان. كما كان الحراك جواباً عن مجمل السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي مارستها رأسمالية متوحشة مهيمنة على البلد منذ عقود، ولا تعطي بالاً لمصالح الغالبية من اللبنانيين، بمقدار ما ينحصر همّها في تأمين مصالحها الخاصة ومصالح زعماء الطوائف. لذا، فإن ولادة الحراك راهناً، وتجدّد هذه الولادة مستقبلاً، مرتبطان بهذا العامل الموضوعي المتصل بمصادرة الطوائف الحياة السياسية وبإصرار الرأسمالية المتوحشة على سياسة تمعن في إفقار اللبنانيين. منذ قيامه، تعرّض الحراك لمحاولات مصادرته وتوظيفه سياسياً، وخلافاً للأهداف التي انطلق منها. من دون الذهاب في منطق المؤامرة، إلا أن الحراك تعرّض لاستغلال من قوى سياسية انتهازية، حاولت ولا تزال حرفه عن طابعه السلمي وإلباسه طابع الشغب ورفع المطالب السياسية غير الواقعية، والانفراد بتحركات غير منسقة مع القوى الأخرى، وصولاً الى التخريب المتعمد في وسط العاصمة بما يوحي بخطة مدبرة، والأهم من ذلك التوهم أنه على حصان النفايات وإبقاء أزمتها مفتوحة، يمكن النط الى استلام السلطة. في المقابل، شهد الحراك «ازدهاراً» في نمو التنظيمات وتفريخها في شكل كبير، وهو أمر طبيعي ولا يقع في باب السلبية، بقدر ما هو التعبير العفوي عن انفجار الاحتقان في الوضع اللبناني. بمقدار ما يصب هذا التفريخ في الإيجابيات، إلا أنه معرض للفوضى، في ظل عدم وجود مركز، وافتقاد التنسيق بين منظمات الحراك، والإصرار على حركية دائمة، والركض أمام وسائل الإعلام للظهور والتصوير، وعدم الاتفاق على الشعارات السياسية والقضايا التي يجب إثارتها من دون الغرق في ملف النفايات فقط. هذه السلبيات تستوجب التلاقي والتنسيق الضروريين، بما يعيد تنظيم القوى والحد من الاختراقات. قد تتحول هذه السلبيات الى مشكلة بين أبناء الحراك أنفسهم، بما يضعفه ويمسّ في سمعته، والأخطر أن يجعل الناس متوجّسين من أهدافه، بما يفقده التأييد الشعبي. أدت الممارسات السلبية التي برزت أخيراً، الى ردود فعل مشروعة من المواطن العادي، لكنها مليئة بالكذب والخداع من جانب أطراف السلطة. قبل التظاهرة الأخيرة، مارس أركان النظام نفاقاً مؤيداً للحراك، لكنهم كانوا يعملون في السر والعلن على الطعن به، وما إن حصلت المشاغبات الأخيرة، حتى كشفوا القناع عن وجوههم ورموا الحراك بشتى النعوت الوقحة، وكأن أبناء الحراك هم من تسبّب بالحروب الأهلية وبخراب البلد. أطلقوا كلام حق مستنكراً للتخريب، لكنه كلام يراد به باطل. لا تجب الاستهانة بمواقف أركان السلطة والأحزاب الموالية لها، طائفية كانت أم سياسية، من اللعب بالحراك واختراقه وتوجيهه خارج الأهداف التي انطلق من أجلها. من هنا، تكتسب استقلالية الحراك كل أهميتها بوصفها الحصانة التي لا مفر منها لعدم الانزلاق الى السلبية وبالتالي الى العدمية. لماذا الحاجة ماسة الى استمرار الحراك؟ ينطلق السؤال من ضرورة النظر الى التطورات الإقليمية الجارية في المنطقة، خصوصاً على الساحة السورية وانعكاساتها على لبنان. إذا كان لبنان قد حظي حتى الآن برعاية دولية تضمن أمنه واستقراره، فإن التطورات الداخلية الممعنة في تعطيل كل مؤسسات البلد، وآخرها السلطة التنفيذية، ومراهنة قوى داخلية على التغيرات الحاصلة على الأرض في سورية لمصلحة النظام والموالين له في لبنان، فغن هذه التطورات قد تدفع بهذه القوى الى فرض تغييرات في المعادلة الداخلية اللبنانية وبالقوة، ما يجعل وجود الحراك وتصاعده وتلاحمه أمراً واجب الوجود، لعله يشكل حاجزاً يمكنه أن يمنع إمكان تجدّد حرب أهلية تفرضها التغييرات المنوي تنفيذها. لا توحي التصريحات والممارسات من بعض أهل النظام بأي اطمئنان مستقبلاً. مهما أشير الى سلبيات في مسار الحراك، فإنه يظلّ أملاً للبنانيين المحبطين واليائسين. وإذا ما انتكس الحراك موقتاً، فإن حراكات جديدة ستولد من رحم الواقع اللبناني المأزوم الى أقصى درجاته. التفاؤل ليس مفتعلاً في ولادات قوى عابرة للطوائف، والإحباط واليأس اللذان سيصاب بهما بعض القوى، لن يكونا مانعين ولادات شعبية جديدة خارج القيود الطائفية السائدة.