أكد إمام وخطيب المسجد الحرام، الشيخ الدكتور خالد الغامدي, أن هذا الدين العظيم مبني على ركنين وأصلين جليلين، لا يقبل الله من عبد صرفاً ولا عدلاً حتى يأتي بها: معرفة الله وتوحيده وعبادته، ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته واتباعه؛ وهي مقتضى الشهادتين وحقيقة الإسلام وجوهره، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء}. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته أمر متحتم لا محيد عنه لكل مسلم ومسلمة، وفرضٌ واجب وشريعة غراء ومنهج أبلج وضاء، يسعد بها العبد سعادةً لا شقاء معها أبداً، ويبارك الله له بها في عمره، ويزكي روحه وعقله فينعم بالحياة الطيبة التي هي أثر من آثار محبة النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته، ولقد وبّخ الله الذين لم يعرفوا رسولهم وقرَّعهم بقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}. وأضاف: ليس هناك أحدٌ من البشر يستحق أن يُحَب ويُعَظّم ويطاع من كل وجه إلا رسول الله؛ ذلكم النبي الكريم الذي صنعه الله على عينه فاختاره واصطفاه، واجتباه، وانتقاه، وكمّله ربه بكل الكمالات البشرية والفضائل الخَلقية والخُلقية، ورقَّاه في مدارج العز والكمال والشرف حتى بلغ مستوى لم يبلغه أحد من صفوة الخلق لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، وسدَّ جميع الأبواب الموصلة إليه إلا باب محمد صلى الله عليه وسلم، ومنع الخلق كلهم من التعبد له إلا بما شرع محمد عليه الصلاة والسلام؛ فهو أعظم الخلق حُرمة عند الله، وأتقاهم وأخشاهم وأعلمهم بالله تعالى، وما طرقت العالم شخصية كشخصية محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عرفت الإنسانية مُعَلماً ولا قائداً ولا قدوة أكمل ولا أعلى مقاماً من هذا النبي المختار سيد ولد آدم عليه السلام. وأردف: مهما تَحَدّث المتحدثون ووصف الواصفون، وألّف المؤلفون، ونظم الشعراء المجيدون؛ فلن يبلغوا جلالة وصف القرآن العظيم وبلاغته وبيانه في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم؛ فليس هناك أعلم برسول الله من ربه وخالقه، كما أنه ليس هناك أعلم بالله تعالى وأعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد تحدث القرآن المجيد بحلاوته وطلاوته عن هذا النبي الكريم حديثاً عجباً مشرقاً باهراً متدفقاً، يعرض فيه بأساليب مؤنقة مغدقة جوانب العظمة والكمالات النبوية؛ حيث نشأ يتيماً فآواه ربه ورباه، ووجده ضالاً ما يدري ما الكتاب ولا الإيمان فهداه واجتباه، وكان عائلاً فقيراً فأغناه ورعاه حتى ابتعثه على حين فترة من الرسل رجلاً كريماً في قومه وهو صاحبهم الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ فكان أول ما أنزل عليه صدر سورة اقرأ، ثم صدر سورة المدثر، وفيهما بيان مركّزٌ لمعالم الإسلام وأسس الدعوة؛ فصارت بعثته صلى الله عليه وسلم أعظم مِنّةٍ إلهية ورحمة ربانية طوقت عنق كل مسلم. وتابع: الله تعالى عظّم شأن النبي صلى الله عليه وسلم الكريم في القرآن، وأثنى عليه ثناءً عاطراً في عبادته وأخلاقه وسيرته وجهاده، ولم يكن يناديه إلا بـ{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، أو {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، إجلالاً له وإعظاماً، كيف لا وهو النبي الأمي الذي ما ضَلّ وما غوى وما ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى علمه جبريل شديد القوى؟ وكيف لا يعظمه ربه وهو خاتم الأنبياء الشاهد الشهيد، الصادقُ الصدّوَق الذي جاء بالحق وصدق المرسلين، المرسلُ للثقلين الإنس والجن كافة بشيراً ونذيراً، داعياً إلى ربه بإذنه وسراجاً منيراً نبيٌّ أميٌّ لا يخُط بيمينه ولا يقرأ وجاء بأعظم الشرائع وبُعث بالحنيفية السمحة؟. وقال خطيب الحرم: لقد علّمه ربه ما لم يكن يعلم، وزيّنه وجَمّله بالأخلاق الحسنة العظيمة من التواضع وخفض الجناح للمؤمنين والصبر والسماحة والرحمة والعفو والصفح؛ فأحبته القلوب والأرواح، ولو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، مُلئ قلبه الشريف حباً لأمته، عزيز عليه ما أعنتها وشق عليها، بالمؤمنين رؤوف رحيم، وكان أشدَّ ما يكون على هداية أمته؛ حتى كاد أن يُتلف نفسه؛ فعزاه ربه وصبّره وسلاه بأنه رسول؛ وإنما عليه البلاغ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا يحزنك قولهم ولا يضيق صدرك بما يقولون. وأضاف: إنه نبي كريم، قام لله فأنذر بقوة وثبات؛ فبلغ رسالات ربه ولا فتر ولا توانى، وما أخَذ على تبليغ رسالات ربه أجراً ولا عرَضاً من الدنيا، ولم يكن من المتكلفين المتنطعين؛ بل جاء بالسماحة والوسطية والاعتدال، ولم يكن بدعاً من الرسل، ولم يأت بشيء من تلقاء نفسه؛ بل مبلغاً أميناً عصمه ربه وكلأه بعينه من أن يُضله الناس أو يضروه أو يزلقوه بأبصارهم أو يفتنوه عن بعض ما أُنزل إليه ليفتري على ربه. وأردف الغامدي: الرسول عليه السلام يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنه إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، نجاه الله من مكر الماكرين وكيدهم، ونصره إذ أخرجه الذين كفرو من قريته التي أحب، وأيده بجنود لم تروها، وأنزل عليه سكينته وثبّته وأثنى على شجاعته ورباطة جأشه، أمره ربه بالعدل فحكم وما جار وما كان للخآئنين خصيماً، بشّرت به الرسل وأُخذ عليهم الميثاق إذا جاءكم محمد أن تؤمنوا به وتنصروه، وهو مكتوبٌ عندهم في التوراة والإنجيل، من أبغضه وكره سنته فهو الأبتر المقطوع، ومن آذاه فعليه اللعنة والعذاب الأليم.. شرَّف الله أهل بيته وأبعد عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وأعلى قدر نساءه وفضّلهم على نساء العالمين {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء}، وعظّم شأن صحابته الكرام وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار رضي عنهم وتاب عليهم. وتابع: القرآن الكريم تحدث بأساليب مشرقة متألقة عن جهاده صلى الله عليه وسلم ومغازيه وكيف كان يعالج أسباب النصر والهزيمة بطريقة فذة مدهشة، وما جاء في ذكر معركة بدر والأحزاب وحنين، إلى أحد وصلح الحديبية وفتح مكة وغزوة تبوك، وبعض الأحداث المهمة في سيرته؛ كحادثة الفيل، والهجرة المباركة، وإبطال التبني، وحادثة الإفك الشهيرة، وتشريع الاستئذان، والحجاب، وحادثة الإسراء والمعراج، والإشارة إلى قُرب أجله في سورة النصر، وغير ذلك من الأحداث والقضايا التي أفاض فيها القرآن بإعجاز وبيان لا مثيل له. وقال خطيب الحرم المكي: القرآن أكد في مواطن كثيرة، أنه لا يصلح إيمانُ الناس حتى يؤمنوا بهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه ويطيعوه ويوقروه ويحبوه، وان ذلك فرض واجب على كل مسلم ومسلمة، وأمر سبحانه الأمة باستعمال الأدب العظيم مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنهاها عن رفع الصوت فوق صوته، والجهر له بالقول خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، وأمرها ألا تنادي الرسول باسمه فقط كما يدعو بعضهم بعضاً، وحثّتها على أن تصلي وتسلّم عليه في كل وقت وحين؛ حباً له واعترفاً بفضله وبركته على الأمة. وأضاف: أعظم الحب والأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم: طاعته واتباعه والتمسك بسنته ظاهراً وباطناً، وتقديم أمره على كل أحد، والتحاكم إلى سنته؛ وذلك من أعظم دلائل محبته والإيمان به، ومن أجل أسباب النصر والتمكين في الأرض وائتلاف القلوب واجتماعها وتوحيدها، ونقيض ذلك الاعتراض على سنته بالبدع المحدثة، والآراء والأهواء، ومخالفة أمره والتشكيك في سنته وجعلها قابلة للأخذ والرد، وعدم التسليم بها تهويناً واستخفافاً؛ وذلك من أوضح علامات أهل النفاق الذين سقطت من قلوبهم هيبة مقام النبوة وزلَّتْ أقدامهم في الفتنة والأهواء، وهو أيضاً من أعظم أسباب الفتنة بين المسلمين وتنازعهم وتفرقهم وتسليط الأعداء عليهم وذهاب ريحهم وفشلهم وذلتهم، وإن الأمة مهما ابتغت العزة والنصر والشرف؛ فإنها لن نجد ذلك إلا في لزوم سنته واقتفاء أثره والسير على منهاجه. وأردف: يجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قدوتنا العليا في كل شيء، وحديث مجالسنا ومنتدياتنا، وسمير محافلنا وندواتنا، ومرتكز خطابنا الدعوي ومناهجنا وتربيتنا؛ ذلك أنه عليه الصلاة والسلام القدوة الخالدة، والأسوة التالدة للحاكم والقائد والعالم والمصلح والمربي والناصح والزوج والأب. وتابع: إننا في هذا الزمان المليء بالفتن وأفكار التطرف والإرهاب، واتخاذ الناس رؤوساً جهالاً وأُغيلمة سفهاء الأحلام يفسدون ولا يصلحون ويهدمون ولا يبنون؛ لأشد ما تكون حاجتنا إلى اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة ومنهاج حياة، وإلى تعظيم مقام النبوة والحذر الشديد من رد السنة والاعتراض عليها، وإن الأمة اليوم وهي تتعرض لمكائد الأعداء وظلم المعتدين المختلين في المسجد الأقصى وفي غيره من بلاد المسلمين أحوج ما تكون للرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم وسيرته المباركة لمعرفة المنهج الحق في التعامل مع الأعداء ومواجهتهم ورفع الظلم والاعتداء عن الأمة متأسيةً بسيد البشرية الذي بعثه الله رحمة للعالمين، ومقتدين بهديه في القيام بنصرة الإسلام وأهله ورفع الظلم والاعتداء عن المظلومين ورد كيد المتربصين والحاقدين. واختتم خطيب المسجد الحرام بقوله: مع إطلالة كل سنة هجرية تبرز لنا حادثتان عظيمتان غيّرتا مجرى التاريخ: نجاة موسى عليه السلام وخروجه من مصر، ونجاة محمد صلى الله عليه وسلم وخروجه من مكة؛ مع أن زمن حدوثهما مختلف حيث كانت نجاة موسى في العاشر من محرم، ونجاة محمد في أوائل ربيع الأول؛ إلا أن اعتماد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للتاريخ الهجري من بداية محرم جعل هاتين الحادثتين تلتقيان فتُذكران في بداية كل عام هجري، وأصبحتا من أهم الأحداث؛ لما فيها من التشابه والعِبَر والحكم والآيات الباهرات؛ ولذلك كان صيام عاشوراء سُنّة نبوية مباركة تؤكد عظيم الصلة بين النبي موسى والنبي محمد عليهما السلام.