كثير من النقاد تحدثوا عن وظائف الرواية، وأن أجمل ما فيها أنها مرنة لدرجة يمكنها أن تقوم بوظائف معرفية أخرى، بمعنى أنه يمكنك من خلال التأليف الروائي تمرير وعرض المعلومات والقصص وفق التاريخ أو المستقبل أو الحاضر وتشكلها برؤية ذاتية، وتجعل فيها إسقاطات كثيرة، وإذا أمعنا النظر فإننا سنجد أن هذا واقع، إذ توجد روايات عدة تحمل دلالات وسرد لأحداث محددة، يمكن من خلالها تسليط الضوء عليها ودراستها. كثيرون من الأجيال الجديدة لا يعرفون عن الحرب العراقية - الإيرانية أية معلومات، ويجهلون واقع تلك الحرب التي استمرت لنحو ثمانية أعوام، وعدم المعرفة يمتد لمراحل ما بعد تلك الحرب من اجتياح العراق للكويت، وما أفرزته من حروب متتالية تعرض لها العراق. هذا الواقع المزري ينقله لنا بخفة ومهارة كبيرة الروائي العراقي نوزت شمدين، في روايته: سقوط سرداب، التي نشرت حديثاً من المؤسسة العربية للدراسات والنشر. والقصة عن شاب قررت أمه حبسه في سرداب البيت فور تخرجه من الإعدادية، ووضع المؤلف عام 1986 كبداية للدخول نحو السرداب، وهذا التاريخ لم يحدده المؤلف اعتباطاً، وإنما لأنه كان من أعوام الحرب العراقية - الإيرانية المشهودة. قيام الأم بإخفاء ابنها في السرداب، للهرب من الموت من جهتين، إما الموت في الحرب التي أكلت الأخضر واليابس وذهبت بالآلاف من الضحايا الذين يتساقطون يومياً، لذا أيقنت أن ابنها لو قدر له وتوجه نحو التجنيد فإن مصيره الموت، أما الموت الآخر الذي يتربص به فكان من الحكومة نفسها التي تقتل كل من يتخلف عن الاستجابة للتجنيد، لذا نسجت الأم قصة هرب ابنها إلى الخارج، بينما هو في سرداب منزلها. يأخذنا المؤلف طوال سنوات بقاء هذا الشاب في السرداب لا يصاحبه خلالها إلا المذياع الذي من خلاله يسمع أخبار العالم الخارجي، إذ يلتقط إذاعات مختلفة سواء عراقية أم تلك التي تبث باتجاه العراق من الدول المجاورة وغيرها من الإذاعات العالمية، يأخذنا في رحلة معرفية بتفاصيل دقيقة وحزينة لواقع الإنسان العراقي المطحون في رحى حرب ضروس قاسية، ولقد نجح المؤلف في جوانب عدة، أولها الإقناع والتأثير، الذي ساعده في هذا الجانب غزارة المعلومات والقصص التي تم سردها بواقعية ومنطقية بعيداً عن التهويل والتضخيم، ثم جسامة التضحية والألم النفسي لبطل الرواية، التي يمكن إسقاطها على الإنسان العراقي والعربي بصفة عامة، إذ يضحي بحريته طوال عشرات الأعوام من أجل الأمل بالغد، الذي قد لا يأتي، وهو الأمر الذي اتضح في نهاية الرواية عند خروج البطل من السرداب، ورؤيته لكل الفوضى التي تقع في بلاده بسبب الحروب العبثية في تلك الفترة ثم سقوط نظام صدام، ودخول القوات الأميركية لبلاده، فآثر العودة للسرداب.. رواية شيقة تحكي عن حقبة تاريخية للمنطقة بصفة عامة ولحال الإنسان العراقي من الداخل بحميمية وحياد وهدوء، ومن دون أي إسفاف أو حكم على الوقائع أو الشخوص، ذلك أن العمل أدبي روائي، وإن كان بنكهة تاريخية واقعية مؤلمة في حين، ومبكية في حين آخر.