يحدثك المواطن العربي البسيط بحكمة بالغة ونبرة واثقة عمّا فعلته الفضائيات في حياته. يحكي عن آماله التي لم تحدها سوى السماء، ثم يسرد صدماته التي أسقطته أرضاً. يتذكر بنوع من الأسى وتأنيب الضمير كيف تطلع يوماً إلى «سي إن إن» و «بي بي سي» باعتبارهما التلفزيون كما ينبغي أن يكون. يجترّ أحزانه وقت تصور أنّ طوق نجاته يكمن في «سي إن إن عربية» و «بي بي سي قومية». يعترف بأن المكاشفة لم تعد على رأس أولوياته، وإن كان يشير إلى أن إخفاقاته وسقطاته تعود إلى غيابه وتغييبه إعلامياً، ناهيك عن استسلامه لاحتياجاته اليومية التي لم تعد مجرد تعليم أفضل وصحة أوفر ومال أكثر، بل باتت فرصة للبقاء على قيد الحياة. الحياة في العالم العربي هذه الأيام لا تخلو من مكون فضائي يومي يؤثر في حياة ما لا يقل عن 300 مليون مواطن، سواء في دول لم تطلها رياح الربيع حيث الشرق الأوسط الجديد، أو تلك التي تعصف بها رياحه الهادرة استعداداً للتقسيم المرتقب. فمن مواطن يمني يرزح تحت وطأة حروب الحوثي/ صالح في مواجهة بقية الشعب اليمني والتحالف العربي، إلى عائلة سورية تتنقل من أماكن سيطر عليها «داعش» إلى أخرى في قبضة «الجيش الحر» أو «النصرة»، وأخرى عراقية لا تعلم إن خرجت في الصباح هل تعود في المساء أم «تُفخّخ» في الطريق، إلى شعب مصر حيث انتخابات نيابية مقبلة بعضهم يعتبرها حدثاً عظيماً يستحق الاحتفاء وبعضهم الآخر يعتبرها مسرحية كبيرة وخيبة تستوجب الانسحاب، إلى مواطنين ليبيين في حيرة من أمر البرلمانين والحكومتين وعشرات العصابات والجماعات المسلحة، إلى تونس وتحسس طريق نحو ديموقراطية يظنها فريق الأنجح عربياً ويراها آخر مجرد تمثيلية يبحث الجميع صباح كل يوم ومساءه عما يساعدهم في فك «لوغاريتمات» اليوم. قناة لكل توجه ولحسن الحظ – وربما لسوئه - بات لدى كل منهم قناة تتواءم وتوجهات البحث عن الأخبار والتطورات وربما استشفاف المستقبل القريب عبر التحليلات والرؤى التكتيكية والنظريات الاستراتيجية. صحيح أن معظم ما يقال اليوم ينقلب رأساً على عقب في اليوم التالي، حيث الباغي يتحول مدافعاً، والمنتصر يصبح منهزماً، وحامي حمى الوطن يصير طاغية الطغاة، ولكن تظل الفضائية المختارة سند المواطن العربي الواقع بين شقي رحا الأحداث والتطورات. يحدثك المواطن العربي عن صدمة عمره في قناة كذا الإخبارية العربية التي ظن أنها ملاك الحقيقة وكاشفة الفساد ومعرية الطغيان، فإذ بها تكشف عن وجه انتقائي لأخبار دوناً عن غيرها، وتوجهات بديلاً عما سواها. ويسرد مشكلاته مع قنوات اعتبرها ناطقة باسم الواقع دون رياء، فإذ بدول المنطقة المنهارة تكشف له أن بعضاً من هذه القنوات كان عاملاً محفزاً لتحميل الفوضى الخلاقة وتفعيل إعادة هيكلة المنطقة، وهما العمليتان اللتان لم تنتهيا بعد. التشكيك بعد اليقين وبعدما كان المشاهد العربي يبتلع جرعته التلفزيونية اليومية دون تشكيك أو تفكير، تماماً كما كان يفعل في المدرسة حيث المناهج غير قابلة لإعمال العقل والمعلم غير خاضع للسؤال الذي لم يرد في المنهج، بات المشاهد العربي - لا سيما في الدول المصابة برياح الربيع - يخضع قناته الفضائية للبحث والتقصي، والتحليل والتفنيد، والمراجعة والمحاسبة، وأحياناً للتنقيب في أصلها وفصلها والتحقق من هوية مالكيها وتتبع العاملين فيها. فإن كانوا إسلاميين فالقناة تخدم حلم الخلافة، وإن كانوا ليبراليين فهم حتماً أتباع الغرب الفاجر، وإن كانوا وطنيين فهم حتماً يخبئون توجهاً آخر ليس في مصلحة المواطن ولا الوطن. والنتيجة أنّ بعد سنوات من الثورة الفضائية، وانقضاء زمن الرضا بالاكتفاء المعلوماتي العربي الذاتي، واكتشاف بعضهم أن الأخبار – حتى وإن كانت منقولة على الهواء بينما تحدث - قابلة للتطويع وخاضعة للتأويل في أشكال عدة وأغراض كثيرة، بات المشاهد العربي أكثر تشككاً وأقل راحة. سائق الأجرة يتحدث عن أمراء «التوك شو» الذين كان يجلهم وقت كانوا يتعرضون للفساد ويفضحون السرقات، ثم عرف رواتبهم المليونية، وعاصر تحولاتهم الحربائية، وأخيراً بات يتابعهم للتسلية والسخرية منهم وليس لاستقاء الأخبار أو تكوين الآراء. يقول: «أشاهد عشرات القنوات من الشرق والغرب، وأتابع الكثير من القنوات المحلية الرسمية والخاصة، ثم أترك دماغي تقرر آرائي وتوجهاتي». الدماغ المقررة للآراء والتوجهات احتارت بحيث زادت الأوضاع الفضائية صعوبة وتكالبت قوى النصب والاحتيال لتصارع قوى التعتيم والتغييب على حساب المشاهد المتلقي. فقبل أيام، عرض مذيع مشهور لقطات من لعبة كمبيوتر تصور حروباً ضارية وخبطات مفزعة على أنها الضربات الروسية الموجهة إلى «داعش»، وصدّق المشاهد ما رآه ليتضح فيما بعد أن معدّي البرنامج لم يتحققوا مما وردهم على صفحتهم على فايسبوك. وقبل أسابيع، عرضت فضائية عربية مقطعاً لتبادل إطلاق نار في أرض معركة على أنها تقدّم لجيش النصرة على حساب الجيش العربي السوري. وفي الوقت عينه، عُرض المقطع باعتباره العكس تماماً. والأمثلة أكثر من أن تعد أو تحصى، لكنّ القادرين على تقصّي الحقيقة قليلون. يصعب أن تكون الحقيقة نسبية، لكنّ شاشات التلفزيون نجحت في تطويعها وجعلها ذات مقاييس وأوجه عدة، وهو ما يجعل المشاهد العربي مرتاحاً، على رغم قسوة الظروف وضراوة الأحداث. فإن أردت أن تسمع أن النظام على حق وكل ما عداه متآمرون، فدق على الريموت دقة واحدة. وإن أردت أن تشاهد بالحجة والبرهان أن الجماعات المقاتلة معارضون شرفاء ومجاهدون عظماء، فدق على الريموت دقتين. أما إن أردت أن تثبت لنفسك أن الغرب يحرك هذا ويجند ذاك، فدق على الريموت ثلاث دقات. أما إن كان يقينك أن الجميع إلى هلاك، فأغلق التلفزيون، واخلد إلى النوم إلى حين تبيان الأمر.