ينظر المحققون في الجريمة دائماً إلى الأسلوب الإجرامي الذي تمت به والمستفيد منها، من أجل التوصل إلى الجاني الحقيقي. فقد تتوفر أحياناً أدلة وبيانات ظرفية مزروعة أو مزورة لتضليل المحققين وصرفهم عن الاستدلال على الجاني الحقيقي. فقد اعتبر رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو تنظيم داعش المشتبه فيه الأول في حادثتي التفجيرين المتزامنين اللذين استهدفا يوم السبت الماضي آلاف الناشطين الذين تنادوا من كل فج عميق في تركيا إلى المحطة المركزية للقطارات في العاصمة أنقرة، حيث قتل 122 شخصاً وجرح 507 آخرون من مؤيدي القضية الكردية والمنددين بأعمال العنف. حقيقة المشهد أن تجمعاً سلمياً غير محسوب على حكومة حزب العدالة والتنمية، نظم مسيرة لدعم القضية الكردية وللتنديد بالعنف، فتعرض هو نفسه للعنف، قبيل أسابيع معدودة من الانتخابات المبكرة التي يأمل الحزب الحاكم أن تمكنه من استعادة أغلبيته التي خسرها بسبب صعود حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد. وكان الحزب الذي تتهمه الحكومة بأنه الواجهة السياسية لمنظمة حزب العمال المحظور، قد تعرض نشطاؤه السلميون خلال الحملة الانتخابية في ديار بكر في يوليو/تموز الماضي إلى هجوم مماثل أسفر عن سقوط 34 قتيلاً. إذاً الضحية المستهدف واحد، والأسلوب الجنائي الذي تم به الاستهداف واحد، انفجاران مزدوجان متزامنان في تجمع معلن مكاناً وزماناً. فمن يكون الفاعل في الحالتين؟ إذا كان الجاني المفترض هو تنظيم داعش، فهذا الأسلوب ليس مما اعتاد عليه، وليس المسرح مناسباً لعمله، كما أنه يفتقد الدافع الآني القوي، وليست هناك خصومة أصلاً قد تكون بين التنظيم وحزب العمال الكردستاني التركي، وإذا كانت هناك خصومة فهي مع قوات البيشمركة الكردستانية العراقية التي ساعدت الكرد السوريين في عين العرب (كوباني). داعش تنظيم إرهابي ويفتخر بأن يعلن عن كل عملية وحشية ينفذها ولا يبالي، فلماذا يبالي بالتكتم إذا كان قد اقترف مسؤولية التفجيرات الدموية التي استهدفت تجمعات سلمية لأكراد تركيا؟ وعلى فرض صحة ما تدعيه الحكومة التركية عن مسؤولية التنظيم عن تفجيري أنقرة، ما هي مصلحة التنظيم في القيام بعمل دموي كهذا وهو غير معتاد عليه هدفاً ومكاناً، إلا إذا كان يقترفه تعبيراً عن الامتنان إلى الراعي والحليف التركي الذي يسهل مرور الراغبين في الانضمام إلى التنظيم عبر الأراضي التركية وغض الطرف عن الأنشطة الأخرى التي تجلب للتنظيم المال مثل تهريب النفط والآثار. زيادة في تعقيد الصورة وتمييع الاتهام لم يستبعد رئيس الوزراء التركي أن يكون حزب العمال الكردستاني نفسه أو الجبهة الثورية لتحرير الشعب اليسارية المتشددة وراء الاعتداء. وهو اتهام ليس منطقياً ، فمسرح عمل حزب العمال ليس من بينه أنقرة أو أي مدينة خارج إقليم جنوب شرق تركيا، كما أن مقاتلي الحزب يستهدفون ممثلي الدولة التركية وهم الجيش والشرطة والإداريون المحليون. فضلاً عن ذلك فإن رد فعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان البارد حيال الاعتداء الأكثر دموية في تاريخ تركيا الحديث يلقي بظلال من الشك على الفاعل الأصلي. هذه الهجمات بهذا الشكل المتقن هي من عمل أجهزة استخبارات متمرسة تملك حرية الحركة واختيار المكان والزمان والمتفجرات الفتاكة. خاصة أن حكومة حزب العدالة والتنمية أعلنت الحرب على الأرض وسياسياً على حزب العمال الكردستاني. ولا يزال البعض يعتقد أن كل شيء مباح في الحرب. osnim@hotmail.com