مرت سنوات طويلة بعد نكبة 1948 والعرب يتعودون بمرارة قاتلة على الواقع الجديد: يافا وحيفا والناصرة وعكا وصفد، كانت جزءاً من فلسطين التاريخية التي عاش فيها أجدادنا آلاف السنين، وها هي في غفلة من الزمن، تصبح جزءاً جغرافياً وسياسياً وقانونياً من كيان جديد دخيل، اسمه إسرائيل. وقبل أن تمر عشرون سنة على هذه الكارثة العربية التي لا مثيل لها في التاريخ إلا في قرني حروب الفرنجة التي عرفت بالحرب الصليبية، وقعت الهزيمة النكراء في العام 1967، فأصبحت فلسطين التاريخية بأكملها تحت سيطرة الأخطبوط الصهيوني، بما في ذلك مدينة القدس، بشقيها الغربي والشرقي. وبعد مرور عشر سنوات على هذه الكارثة الجديدة، التي جاءت تكمل الكارثة القديمة، وفيما كانت الحركة الصهيونية تمارس أفظع عمليات التهويد لما وقع بين يديها حديثاً من أرض فلسطين التاريخية، ارتكب أنور السادات خطأ جديداً، فحوّل الإنجاز العسكري في حرب 1973، ليس إلى عتبة لتحرير فلسطين، ابتداء بما وقع منها تحت الاحتلال في العام 1967 أولاً، بل إلى عقد سلام تاريخي مع الكيان الصهيوني، مقابل استرداد قطعة أرض عربية واحدة هي صحراء سيناء، منقوصة السيادة الوطنية، مع ترك كل ما اغتصب من أرض فلسطين على دفعتين (48 و67)، تحت نير استكمال التهويد بجحافل المستوطنين. وشيئاً فشيئاً، بدأ هذا الواقع الجديد يتحول إلى عادة سياسية لدى بقية الأنظمة العربية، من وقع منها سلاماً مع الكيان الصهيوني، ومن لم يوقع. وجاءت اتفاقية أوسلو لتشكل بعد عشرين عاماً على توقيعها، عملية تنازل فلسطيني تضاف إلى التراجع العربي العام. وكاد هذا الواقع يتحول إلى قدر عربي مع دخول أربعة أقطار عربية أخرى، غير فلسطين المحتلة، في دوامة الأزمات الوجودية التي تكاد تعصف بوحدتها الوطنية، هي العراق وسوريا وليبيا واليمن. في خضم هذا الأفق الملبد بالغيوم السوداء تهدد المصير العربي المعاصر بأفظع الويلات، إذا بشبان وشابات فلسطين التاريخية، التي كادت تصبح نسياً عربياً منسياً، ينتفضون في هبة شملت كل دسكرة من دساكر فلسطين التاريخية، من البحر المتوسط إلى نهر الأردن، ومن رفح في الجنوب إلى الناقورة في الشمال. إن من يقرأ أحداث هبة فلسطين في الأيام الأخيرة، ويحاول وضعها على خريطة جغرافية، يجد أمامه فجأة الخريطة التاريخية لفلسطين التاريخية، كما عايشها آباؤنا وأجدادنا، على نفس البقعة الجغرافية التي أصبحت تحمل في كتب الجغرافيا الغربية اسم إسرائيل. الواقع في الحيرة الشديدة أمام هذا الواقع الجديد اثنان: دولة اسرائيل بحكومتها وشعبها، الذي أصبح يحس باهتزاز الثبات الوجودي لكيان إسرائيل المصطنع، كما لم يفعل من قبل والسلطة الفلسطينية التي لا تعرف أين تتجه البوصلة بالأحداث: إلى مزيد من الغليان الذي لم تعد السلطة تمتلك من أمره شيئاً، أو إلى التهدئة القسرية التي تحاول بها استرضاء حكومة الكيان الصهيوني وتبريد أعصابها. أما شعب فلسطين، فها هو في أراضي العام 1948، وأراضي العام 1967 قد عاد فجأة الى الامساك بيديه بخريطة فلسطين التاريخية العربية، التي تشكل فيها غزة ويافا وحيفا ورام الله ونابلس والقدس، وحدة جغرافية واحدة، سرق المجتمع الدولي من أهلها ذات يوم حق تقرير المصير، وأقحم بدلاً منه قرار التقسيم. إنه اكتشاف قديم جديد لعرب فلسطين لا أعتقد أنهم بعد اليوم سيدعونه يفلت من بين أيديهم.