كنا في السابق نسمع عن الفرق والطوائف الضالة، ذات المسميات الغريبة، وقد كنا نعرف مسبقاً أن تلك الفرق والطوائف تشكلت في ظل انتشار محفزات الضلال والزيغ عن الحق مثل: الجهل، والهرطقات الشائعة في مجتمعاتهم البدائية، التي ترسخت فيها بعض العقائد المنحرفة جراء استشراء الأوبئة، والفقر بين الناس، لأنهم بسبب عوزهم للغذاء، وحاجتهم إلى الشفاء من الأمراض، تأقلموا مع ما يحيط بهم من مظاهر العبودية، والاستخفاف بكراماتهم، وسلَّموا زمام عقولهم طواعية إلى أسيادهم، وزعمائهم الروحانيين، لكن رغم كل ذلك، ظل هؤلاء المبتدعون الضالون بعيدين عن حلبة صراع التيارات الإسلامية، وليس من المبالغة إذا قلنا إننا نكاد لا نرى لهم أثراً على خارطة العالم الإسلامي لولا اهتمام بعض الباحثين والدارسين بتلك الحركات والتيارات، التي تدعي هويتها الإسلامية، وسبب ذلك يعود إلى أن البنية العقدية لديهم ضعيفة وهشة، وغير دافعة إلى الانخراط في أي صِدام، أو مواجهة مع الطوائف الأخرى، ولذلك السبب تحديداً لم يبحث أسيادهم عن زعامة دينية خارج حدودهم الجغرافية كيلا ينكشف جهلهم المطبق بتعاليم الدين الإسلامي أمام أتباعهم، فيخسروا مكانتهم وامتيازاتهم في مجتمعاتهم الغارقة في الجهل والظلام، وهو أمر منطقي يفسر الغياب الكلي عن المنافسة في مضمار الصراعات الطائفية والمذهبية، التي يشهدها العالم الإسلامي. لكن ما نشهده اليوم من بروز جماعات، وتيارات موغلة في التطرف والتكفير على الساحة، أمر محير ومثير للقلق بصورة تجعلنا لا نتفاءل في انخفاض نسبة العنف والتطرف في المنطقة، لأن الجهل المهيمن على عقول المتطرفين القتلة هو ذات الجهل، الذي جعل أتباع بعض الفرق الضالة، يميلون إلى السكينة والسلم إلى حد الخضوع والاستسلام! إذاً لماذا لم يفكر قادة جماعة «داعش» التكفيرية الجاهلة بذات المنطق، الذي جعل الزعماء الدينيين لتلك الفرق الضالة، ينسحبون من حلبة الصراع كيلا ينكشف أمرهم أمام الأتباع؟ المسألة تعدت كونها غسيل أدمغة، إذا كانت لديهم أدمغة، فما يحدث على الساحة من إفراط في القتل، تجاوزت فظائعه كل الجرائم التي مرت في تاريخ البشرية منذ بدء الخلق! ويشترك في هذا الرأي كل مَنْ شاهد المقاطع المقززة والدموية لتلك الجماعة الإرهابية، فالجهل هذه المرة بلغ بـ «الدواعش» آفاقاً بعيدةً جداً، إلى الدرجة التي تجعلهم يستبيحون دماء المسلمين دون اكتراث لصلواتهم، وصومهم، وحجهم، ويحرضون علانية على «تذكية» كل مَنْ لا يتبع مَنْ صنعهم، ربان الإرهاب والجهل المجرم الخبيث المدعو بالبغدادي، رغم أن الغالبية العظمى منهم أصحاب سوابق جنائية وأخلاقية، ومع ذلك لا يتورعون عن تكفير المجتمعات الإسلامية وتفسيقها!. وهذا تطور خطير في ثقافة الجماعات الإرهابية، حيث إن له عواقبه الوخيمة على المجتمعات إذ لم تكافح الجهل عبر الاهتمام بالتعليم، الذي لابد من تحسين بيئته، والتقليل قدر الإمكان من هيمنة الطرق التلقينية في التدريس، والاهتمام بتطوير المناهج بحيث تكون محفزة على التفكير والنقد لكي تتوسع مدارك الطلاب، وتتحرر عقولهم من الأفكار المقولبة السائدة، وتتشكَّل شخصياتهم في بيئة صحية قائمة على التنوع والتعدد في التوجهات والآراء. في اعتقادي أن الجهل هو المسؤول الأول عن سهولة انقياد العقول من ضفة إلى ضفة حتى لو كانت الضفتان متناقضتين في كل شيء، فالجاهل كما هو الحال مع «الدواعش» لا يجيد التفكير، ولا يُحسن الفهم، ويميل دائماً إلى استخدام الأمثلة السطحية لأنه لا يملك تراكماً معرفياً، يسعفه في تقوية حجته، ويجعله قادراً على مقارعة خصومه بالحجج والبراهين، لذلك غالباً ما يكرر بعض الأفكار الشائعة في محيطه هرباً من الاعتراف بخوائه الفكري. الغريب في الأمر أن الجهل استبد في عقول «الدواعش» الخاوية إلى الحد الذي جرَّدهم من العاطفة، بحيث يقتل الداعشي أهله، وأقاربه بدم بارد، وهو يكبِّر أمام الكاميرات، التي توثق تفاصيل غدره وخيانته وقلة مروءته مع مَنْ تقاسموا معه الحياة في حلوها ومرها في مراحل عمره المختلفة. إن القاسم المشترك بين الجماعة المسالمة ذات الفكر الضال، والجماعة الإرهابية «الوالغة» في دماء المسلمين، هو الجهل، ولا فرق بين الجماعتين من حيث الانقياد التام من أفرادهما لزعمائهم، واتباع أوامرهم حتى لو كانت تسلب منهم حريتهم، وتكبلهم بقيود الاستعباد، بيد أن الفرق يكمن في أيديولوجية القادة، الذين يُسيِّرون هؤلاء الأتباع وفق رغباتهم ومصالحهم بصورة لا يقبلها إنسان حر، ولهذا السبب أرى أن الحرب الحقيقية يجب أن تكون ضد الجهل، الذي أنتج لنا أجيالاً هشة، خاوية، لا تملك من العلم والمعرفة ما يجعلها بمأمن من الوقوع في شراك الجماعات الإرهابية المتطرفة، والسلاح الوحيد، الذي ندفع به مخاطر الجهل عن أبنائنا هو ذلك العلم، الذي يحفزهم على التفكير والاستنتاج لا على الحفظ والتلقين.