أكثر من مرة أبديت إعجابًا وحماسًا لتجربة الهند التي غرقنا في خواطرها هذه الأيام. ولكن يجب أن أوضح أن كل شيء نسبي في الكتابة، كما في الحياة. إني أقارن الهند بالهند، وليس بالدنمارك أو السويد أو سويسرا. لأن الهند التي عرفتُ جزءًا صغيرًا منها، ولفترة عابرة أوائل الستينات، كانت يومها نموذجًا بشريًا مريعًا. والهند التي نتحدث عنها اليوم نموذج لا يصدَق: مليار إنسان، ملايين منهم لا يقرأون ولا يكتبون ولا يعملون ولا يأملون، يتوافقون في ظل نظام ديمقراطي يصهر أعراقهم وطبقاتهم وطوائفهم وعاداتهم. في انتخابات 1967 كتب مراسل «التايمز» اللندنية: هذه آخر انتخابات برلمانية في هذه البلاد. ما من نظام أرضي يتسع للهند. مضت الهند المعدمة نحو المستقبل، فيما غرقت مصر في الانتحاب على الماضي. حافظت الهند على وحدة عجيبة بين العناصر المتباعدة، فيما سارت عناصر الوحدة العربية المتكاملة والمتجانسة نحو التفكك. نهرو، الذي كان مأخوذًا بالتجربة المصرية، أسس لبلاده «عقدًا مع المصير»، أو المستقبل، وأدرك أن الحل الوحيد لأمة متعددة مثل أمّته، هو الديمقراطية. هو السعة وقبول الآخر، وأن شمسًا واحدة تشرق على وطن واحد وجميع مواطنيه. خلافًا لما توقعه مراسل «التايمز» لم يجرؤ أحد على التعرض إلى النظام الهندي. اختلف سلوك الحكام، من نهرو إلى أنديرا إلى الباقين، لكن لم يختلف سلوك المؤسسات. لم يقم ضابط يقول أنا هو الحكم والأبد. حدث ذلك في الجارة الباكستانية التي يطل عليها العسكر بين فترة وأخرى. الأخرى، أي الصين، فقد تجاوزت الهند على نحو مذهل: في التعليم وفي الصناعة وفي الإفادة من نظم التبادل التجاري العالمية. وقد تأخرت الهند حتى الثمانينات للحاق بالنماذج الآسيوية الأخرى، خصوصًا تايوان وكوريا الجنوبية. وقد قيض للهند - مثل سواها - وزير مالية، مانموهان سينغ (لاحقًا رئيس وزراء)، أطلق طاقاتها ونقلها إلى السوق العالمية المتوسعة. كان الزعيم الهندي بشريًا يصغي إلى الناس والمستشارين وخبراء التطور وعلماء التقدم، بينما ظل الزعيم العربي إلهًا، إلى أن تهاوى كل شيء مرة واحدة. الذين كانوا يسخرون منا عندما نقارن بلداننا بالغرب أو ببعض آسيا، فليسمحوا لنا بالمقارنة بالهند. لقد كان الهندي موضع نكات في أمكنة، وموضع سخرة في أخرى. والآن يتطلع إلينا العالم فيرى بعضنا في مراكب الغرق والبعض في مراكب الهرب. الذين يضربون الاستقرار في مصر، يضربون مصر. والذين يهدمون وحدتها، يهدمونها. خيرات وطاقات مصر و90 مليون بشري في حاجة إلى نهضة حداثية في الصناعة والزراعة. لا عيب في تقليد الهند والصين وسنغافورة. البطالة عيب، والفقر قهر.