×
محافظة المنطقة الشرقية

عام / صحة حفر الباطن تُغرم عدداً من المنشآت الصحية المخالفة

صورة الخبر

ليس ثمَّة مَن هم أكثر سوء ظنٍّ بالديمقراطيَّة والشُّورى معاً مِن أولئك الذين يصطنعون هوَّة تباعد بين المفهومين، فينْظرون، من جهة، إلى الدِّيمقراطيَّة كمؤسَّسة أجنبيَّة على الإسلام، ومن جهة أخرى يبذرون اليأس في نفوس عامَّة المسلمين من أيَّة إمكانيَّة لتصوُّر الشُّورى بمعايير العصر، غافلين عن قيمة الإجماع البشري كأصل في المؤسَّستين. لكن، بتدقيق المفهومين، تتراجع الفروقات المصطنعة. فعبارة الدِّيمقراطيَّة، بمعنى حكم الشَّعب في الإغريقيَّة، والمركَّبة من لفظي ديموس بمعنى شعب، وكراتوس بمعنى حكم، تنصبُّ، كمصطلح، على شكل الحكم الذي يوسِّع للحريَّات، والحقوق، والمشاركة، والمساواة أمام القانون؛ أمَّا الشُّورى فيقرن غالب الفقهاء والمفكرين بين دلالتها ودلالة الإجماع كمصدر ثالث في الشَّريعة الإسلاميَّة ترتَّب ظهوره، بالضَّرورة، على استجداد الكثير من القضايا بعد وفاة الرَّسول (ص). صحيح أن نشأة الدِّيمقراطيَّة اقترنت، تاريخيَّاً، بالغرب، فكراً وممارسة، منذ أقدم تشكيلاته الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة، وبوجه خاصٍّ لدى الإغريق الذين يعود جذر استخدامات المفهوم إلى تلخيصاتهم الفلسفيَّة، وتطبيقاتهم الإثينيَّة، في القرن الخامس قبل الميلاد. لكن الدِّيمقراطيَّة ظلت تمثِّل، مع ذلك، تطلعاً دائماً لكلِّ المجتمعات البشريَّة، طوال تاريخها، وعلى اختلاف محدِّداتها الزَّمانيَّة والمكانيَّة. ويقترن مفهوم الدِّيمقراطيَّة بمفهوم الليبراليَّة المأخوذ من لفظ الحريَّة اللاتيني. وينتسب هذا المفهوم، فلسفيَّاً، إلى مذاهب جون لوك والتنويريِّين الفرنسيِّين. وقد تبلور في أوروبا القرنين السَّابع عشر والثَّامن عشر كبرنامج أيديولوجي للبرجوازيَّة الصَّاعدة، آنذاك، من رماد الإقطاع، وكتعبير ثوري عن حاجتها الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة لتحطيم الحواجز القائمة، أمامها، في القوانين الإقطاعيَّة المدعومة من الإكليروس الكنسي، والتي لم تعد تناسب حركة رأس المال والسِّلعة، إلى جانب تكبيلها لحريَّة اختيار المهن، وانتقال الأيدي العاملة المطلوبة لتطوُّر الصِّناعة في المدن، حيث كان الفلاحون الأقنان يُجبرون على البقاء في الرِّيف لخدمة أسيادهم كأنصاف عبيد. وبما أنه كان لا بُدَّ لتلك الضَّرورات، في مستوى البنية التحتيَّة، من تحويلات كبرى في مستوى البنية الفوقيَّة، فقد قام المفكرون الليبراليون، في ما بين الإصلاح الدِّيني واندلاع الثَّورة الفرنسيَّة (1789م)، بتدمير الأسس النَّظريَّة للإقطاع الذي كانت النَّبالة فيه هي عنوان الامتياز، والحقوق هي المعادل الموضوعي ل حيازة الأرض، كما بشَّروا بمجتمع جديد مصدر الثَّروة فيه رأس المال القائم في الملكيَّة الخاصَّة، وحريَّة السُّوق/المنافسة، وصوَّروا أن فرص الرِّبح وخيارات المنفعة تنفتح، بفضله، أمام الجَّميع، حيث تمثِّل جهود الفرد الاقتصاديَّة المستقلة، وحريَّة التَّملك، الشَّرعيَّة الوحيدة للتَّمايز، مثلما يمثِّل العقد الأساس القانوني للمعاملات. على أن اقتران الدِّيمقراطيَّة والليبراليَّة لم يقع، في التَّاريخ، ضربة لازب، بل إن الليبراليَّة قاومت الدِّيمقراطيَّة طويلاً، قبل أن تعود لاستيعابها بالتَّدريج. فالليبراليَّة ولدت اقتصاديَّاً، أولاً، ثم تمقرطت سياسيَّاً لاضطرار البرجوازيَّة لتوسيع الحقوق والحريَّات بهدف اجتذاب الشَّعب إلى صفِّ نهوضها الثَّوري ضدَّ الإقطاع. فإذا بالكادحين يستمسكون، لاحقاً، بهذه الليبراليَّة، كسلاح لانتزاع الحقوق السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، فاستحقُّوا عداء الطبقات التي يرتبط لديها إقرار هذه الحقوق بتهديد الأساس الاقتصادي السِّياسي الذي يضمن لها امتيازاتها. الشَّاهد، في ظروف صعود المركانتليَّة، ومفاهيم المدنيَّة، مع التَّهميش الثَّوري المتسارع للاقتصاد الطبيعي، ولأجل الاستمرار في تيسير حريَّة انتقال الأيدي العاملة من اقتصاد الرِّيف إلى الصِّناعة النَّاشئة في المدن، والقضاء على سطوة التوأم السِّياميين في التَّاريخ القروسطي الأوربِّي: الإقطاع والكنيسة، كان منطقيَّاً، تماماً، أن تعلو أيضاً المطالب الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة السِّياسيَّة التي وسمت الليبراليَّة، في عصر الحداثة، بميسم ثورة التَّغيير البرجوازيَّة الشَّاملة. هكذا، وسط التَّناقض بين مصالح البرجوازيَّة الصَّاعدة، ومصالح الجَّماهير الكادحة، ولاستحالة تحقيق الأولى من دون الاعتبار الكافي للثَّانية، ارتقت الليبراليَّة من مستوى الحريَّة الاقتصاديَّة إلى مستوى الحريَّة السِّياسيَّة. ولئن كانت الدِّيمقراطيَّة الليبراليَّة مفهوماً دنيويَّاً بامتياز، فإن الشُّورى مفهوم قرآني: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38؛ الشُّورى) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159 160؛ آل عمران). بل إن الشُّورى، تاريخيَّاً، أسبق على الدِّيمقراطيَّة، وقد اقترنت بالوحي، في عصر ساده الاستبداد، فالرسول (صلعم) لم يستخلف إماماً، بل ترك الأمر للشُّورى، تأكيداً لقيمة الإجماع. أمَّا من يصرِّون على توهُّم الخلاف بين المؤسَّستين فإنَّما يستندون إلى حُجَّة لفظيَّة مضمونها أن السَّيادة في الدِّيمقراطيَّة للشَّعب، أما في الشُّورى فللشَّريعة الإسلاميَّة. لكنهم يتغافلون عن أن تحكيم الشَّريعة يقتضي وجود بشر ليقوم بهذا التَّحكيم، وهذا البشر لا بُدَّ أن تختاره الأمَّة، مباشرة أو في مجلس شورى، وكلا الممارستين ديمقراطيَّة. وربَّما لهذا السَّبب، بالذَّات، ما ينفكُّ الكثير من الفقهاء والمفكِّرين والباحثين، حتَّى بين صفوف حركة الإسلام السَّياسي، يصدرون، في العصر الحديث، عن طروحات تستبعد الاختلاف، من حيث الجَّوهر، بين الشُّورى والدِّيمقراطيَّة؛ وفي ما يلي نختم بعرض مثالين من هذه الطروحات: (1) فضمن محاضرة حديثة له بتونس في 20 مايو 2015م، في إطار ندوة المنتدى العالمي للديمقراطيَّة الحديثة المباشرة، والتي خصِّصت دورتها لبحث علاقة الإسلام بالدِّيمقراطيَّة المباشرة، وصف راشد الغنوشي مفهوم الدِّيمقراطيَّة المباشرة بأنه التطبيق الأعلى لمبدأ الشُّورى، معتبراً أن مفهوم الإجماع مفهوم إسلامي، وأن الشُّورى تعني المشاركة العامة في السُّلطة، كعبادة: والذين أقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، حيث وردت قيمة الشورى بين ركنين من أركان الإسلام، بين الصلاة والزكاة، للتأكيد على أنها عبادة. ثمَّ طرح الغنوشي سؤالاً مركزيَّاً كالآتي: مقابل الشُّورى ماذا في الإسلام؟ ليجيب قاطعاً بأن ذاك هو النِّظام الفرعوني الذي يقول: ما أريكم إلا ما أرى. (2) أما الطيِّب زين العابدين فيرى، في كتيِّبه الدِّيمقراطيَّة التَّوافقيَّة: الطريق للاستقرار السِّياسي، أن هذه الدِّيمقراطيَّة تنسجم مع تعاليم الإسلام الذي يجعل (الإجماع) المصدر الثَّالث للتَّشريع، بعد القرآن الكريم والسُّنَّة المطهَّرة، ويدعو للشُّورى الملزمة في الشَّأن العام. ويستشهد على رجاحة هذه الدِّيمقراطيَّة بنموذج الصَّحيفة، أو دستور المدينة، الذي سعى الرسول (صلعم) للتَّوفيق، عبره، بين كلِّ السُّكان من أنصار، ومهاجرين، ويهود، ومشركين، ومنافقين، على أساس المساواة التَّامَّة في الحقوق والواجبات، حتَّى يضمن قدراً من وحدة الجَّبهة الدَّاخليَّة بما يكفل مشاركة الجميع في الدِّفاع عن يثرب. kgizouli@gmail.com