بمحض الصدفة، وأنا على ارتفاع ألف قدم، وقعت عيني على تقرير أجنبي غاية في الأهمية والمسؤولية، وهو أشبه بدراسة مطوّلة وجادة لرصد مكامن الخلل والقصور والأسباب التي أدت إلى غياب ثقافة التخصص في دول أوروبية، ما نتج عنه أي ذلك الغياب تراجع كبير لتلك الدول في مؤشرات ومقاييس التقدم والتطور والازدهار! ثلاث دول من العالم الأول، وهي فرنسا وبلجيكا والدنمارك، والتي شملها التقرير تُعاني من غياب ثقافة التخصص. هل يُصدّق هذا؟ طبعاً، التقرير وضع الكثير من الأرقام والإحصائيات والنسب التي اعتمد عليها للوصول إلى تلك الدلائل والمؤشرات والبيانات التي تُحذر من خطورة التراجع الكبير الذي تُعاني منه تلك الدول الثماني في مجال الاهتمام بالتخصص في الكثير من المجالات والقطاعات. مثلاً، ذكر التقرير أنه في فرنسا يوجد فقط مجلة علمية متخصصة في مجال الإعلام، وهذا لا يتناسب وحجم المنظومة الإعلامية الفرنسية الكبيرة جداً، والتي تحوي المئات من المؤسسات والبيوت الإعلامية الضخمة، سواء الرسمية أو الخاصة. كما ذكر التقرير إحصائية مثيرة جداً في بلجيكا، إذ لا يوجد سوى سبعة معاهد متخصصة في مجال تعليم وتدريب الغناء الفلكلوري البلجيكي! أيضاً، ذكر التقرير ظاهرة تستدعي التوقف كثيراً، وهي أن الدنمارك مثلاً، لا يوجد بها سوى ثلاثة مراكز لتعلم اللغة الصينية التي أصبحت تُدرس في الجامعات العالمية المرموقة! ولولا ضيق المساحة هنا، لأوردت العديد من الأرقام والإحصائيات المثيرة والغريبة. إذا كان الغرب المتقدم، يُعاني من غياب ثقافة التخصص، فماذا عنا؟. سؤال معقد ومفتوح كهذا، لن يكون مفتاحاً سحرياً للدخول في قضية شائكة وملتبسة، وهي الغياب الواضح لثقافات وسلوكيات التخصص في الذهنية العربية، وهذا الغياب الخطير، يشمل تقريباً كل تفاصيل حياتنا، بدءاً من أشيائنا الصغيرة جداً، وصولاً إلى القرارات المهمة جداً والتي قد تُحدد مصيرنا. غياب التخصص عن الذهنية العربية، ظاهرة متجذرة في بنية الفكر والمزاج والسلوك العربي، فهو أي العربي لا يؤمن كثيراً بالتخصص كمنهج حياة، ويميل كثيراً للانطباعات الشخصية والنفسية والمزاجية، بل وقد يُفلسفها أحياناً بمزاعم وقناعات عقدية، وهنا تكمن الخطورة، حينما يُخضع بعض النصوص والروايات والتراث لإثبات وتكريس كسله وعشوائيته وعدم إيمانه بالتخصص. سأنهي هذا المقال ببعض الأسئلة التي لا تحتاج لإجابة، لأنها من النوع الذي قد تفضحه الإجابة، أو هي أشبه بصرخات مدوّية لا تنتظر رجع ذلك الصدى الحزين. كم هو عدد العلماء العرب المتخصصين في الشأن النووي وتحلية المياه واستكشاف النفط والخلايا الجذعية؟ هل هناك صحفيون متخصصونن في الشأن الانتخابي والبرلماني والحقوقي ومجلس الأمن والمحكمة الدولية والفيفا وجائزة نوبل؟ كم عربي يُجيد اللغة العبرية والصينية والروسية والبرتغالية؟ هل توجد كليات أو مراكز أبحاث أو معاهد متخصصة في الطاقة الشمسية للاستفادة من حرارة الشمس التي لا تكاد تُفارق الأرض العربية؟ لماذا لا توجد معاهد ومراكز عربية متخصصة لتعليم وتدريب التمثيل والغناء والتصوير والنحت والإتيكيت والذوق؟ كم عدد الكتب والدراسات والأبحاث والتقارير والبرامج والأفلام المتخصصة التي أجريت حول ظواهر كالإرهاب والتكفير والعنف والتحرش والطائفية والتوحش؟