يعد العلامة القاضي والمؤرخ الشيخ عبدالله بن علي العمودي أحد أشهر أعلام جازان، وأحد أعلام وأعيان منطقة جازان، وصاحب مسيرة حافلة بالدعوة والوعظ، تنقل بين قرى ومدن جازان طالبا للعلم، ونهل من أبرز علمائها، وسافر إلى مصر لتلقي العلوم في الأزهر الشريف، وله الكثير من المؤلفات المتنوعة التي بحث فيها العلوم الدينية والأدبية والتاريخية والشعرية، وبذل جهودا كبيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء بين الناس، وكان محل ثقة الأهالي لاسيما وقد تولى عددا من المناصب التي عرفه الناس من خلالها كالتدريس والإمامة والقضاء والإرشاد، إضافة إلى دوره في بعض القضايا ذات الطابع الإصلاحي والمشاركة في الوفود للتفاوض الداعي إلى الإصلاح بين الخصوم ووأد الخصومات، وفي العهد السعودي حظي العلامة العمودي بمنزلة وتقدير لدى الملك عبدالعزيز فأبقاه في القضاء مدة طويلة إلى أن شعر الشيخ أنه غير قادر على مواصلة العمل نظراً لكبره وتقدمه بالسن، فتم له التقاعد مع صرف مستحقاته المالية الشهرية فعاش بقية عمره محاطاً بأهله ومحبيه وطلبته إلى حين وفاته رحمه الله. تولى الإمامة والتدريس والقضاء في جازان ومكتبته تزخر بكتب الدين والأدب والتاريخ ولد الشيخ عبدالله بن علي بن عبدالله باسند العمودي البكري بمدينة أبي عريش، واختلف في عام ميلاده فقد أرخ الوشلي أن القاضي العمودي ولد عام 1299ه، ووافقه المؤرخ محمد بن محمد زبارة في كتابه (نزهة النظر في رجال القرن الرابع عشر) إلا أنه ذكر في كتاب (تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع) أن مولده -عام 1295ه، أما والده فقد توفي وهو صغير السن فنشأ الشيخ في حجر أمه يتيم الأب، وذكر القاضي عبدالله العمودي أن من قام بتدبير شؤون العائلة شخص يسمى مبارك وهو أحد موالي والده، وكان رجلاً وفياً أمينا صادقاً، فقد رعى شؤون الشيخ وعائلته واجتهد في قضاء احتياجاتهم وقام رحمه الله برعايتهم خير قيام، وعمد إلى بناء (سقيفة) صغيرة لهم على طريق سوق المدينة الأسبوعي، واستثمرها لهم لتساعدهم على تكاليف المعيشة، فجعلها كاستراحة للمتسوقين وجهزها بما يحتاجون إليه من المياه العذبة وغيرها وهيأ لهم المكان، وكان يقوم بصرف المردود على متطلبات العائلة، مما زاد تعلقهم به واحترامه له، حتى كانوا ينادونه بالأب مبارك وأطلق الناس عليه اسم (مبارك العمودي). نسب آل العمودي ذكر المؤرخون أن آل عمودي -وهي أسرة علم وشرف-، وقال بعضهم إنهم من سيبان من حمير، إضافة إلى ما ذكر عن نسبه في رسالة (نبذ في الأنساب لمن سكن بحضرموت وفي أنساب عدنان وقحطان) وذكر ذلك المؤرخ إسماعيل الوشلي، وسعيد الخطيب القيدوني في كتابه «عرائس الوجود «والسيد محمد بن أحمد الشاطري» أدوار التاريخ الحضرمي» والعلامه السيد صالح بن علي الحامد» تاريخ حضرموت «واحمد بن حسن العطاس عن «نور الأبصار» والعلامة والمحقق الشهير علوي بن طاهر الحداد «الشامل» وغيرهم، وكان الشيخ سعيد بن عيسى العمودي الذي ينتسب إليه مشايخ آل العمودي بحضرموت والمولود عام 600ه (1203م) في مدينة (قيدون) أحد روافد وادي دوعن، قد أسس أحفاده إمارة في تلك النواحي وقد ذاع صيت الشيخ في دوعن وماحولها فقد كان شيخاً عالماً ناسكاً قيل أنه لقب بالعمودي لكثرة صلاته (لكون الصلاة هي عماد الدين) وقد تمكن الشيخ سعيد من الجمع بين البادية وأهل الحضر، وكما ذكر با مخرمة فقد سكن الشيخ عبد الله العمودي «الخريبة» بدوعن وقد سعى للإصلاح بين الناس وجمع كلمتهم واستمرت إمارة أحفاده عدة قرون إلى أن دخلت هذه في صراع مرير مع القوى السياسية المنافسة في المنطقة، وفي القرن الرابع عشر كان الضعف قد أخذ منها مأخذه، نتيجة لتلك الصراعات المتواصلة، إلى أن انتهت الأمور بمساعٍ نحو اتحاد يجمع الدولة القعيطية والدولة الكثيرية في حضرموت لولا تدخلات القوى الغربية والشرقية في ملف المنطقة. تنقلاته لطلب العلم حفظ الشيخ عبدالله بن علي العمودي القرآن الكريم منذ صغره في أبي عريش، ومن ثم التحق بحلقة آل عاكش المشهورة في المنطقة، التي تولاها العلامة إسماعيل بن حسن عاكش منذ وفاة والده العلامة الحسن بن أحمد عاكش في سنة 1290ه، فدرس على يديه الفقه، والتفسير، والحديث، واللغة العربية، وغيرها. وهي من أشهر الحلقات في المنطقة خلال تلك الفترة، حيث كانت مقصداً للكثير من طلبة العلم، ورافقه في تلك الحلقة العلامة العاكشي الإمام محمد بن علي الإدريسي (1341ه)، وذكر العمودي إنه استفاد منه في مبادئ بعض العلوم، وكذلك العلامة محمد بن حيدر القبي النعمي (1351ه) كما هاجر إلى بعض المراكز العلمية المشهورة في تهامة اليمن، التي كان يؤمها طلبة العلم من كل مكان فوصل إلى ميناء الحديدة في سنة 1315ه، وأخذ العلوم الشرعية عن أبرز علمائها ومن ضمنهم العلامة محمد باري بن عبدالقادر الأهدل (1326ه)، ومفتي الحديدة في تلك الفترة عبدالله بن يحيى مُكَرّم (1329ه )، والعلامة فرج بن محمد الحوكي (1326ه) وبعد أن أمضى في الحديدة ما يقارب العام انتقل إلى قرية (المراوعة) - شرق الحديدة ولازم علمائها المشهورين مثل العلامة محمد طاهر بن عبدالرحمن الأهدل (1347ه)، والعلامة حسن بن عبدالله بن معوضة الأهدل (1352ه)، والعلامة عبدالله بن محمد بن عبدالباري الأهدل، الملقب بالجمالي، والعلامة حمزة بن عبدالرحمن بن حسن الأهدل، وقد أجازوه في مختلف العلوم إلا أن أكثر ملازمته كانت للعلامة محمد بن عبدالرحمن بن حسن الأهدل (1352ه )، حيث درس على يديه مختلف العلوم الشرعية، من تفسير وفقه وحديث، والعربية، من نحو وصرف، ونحو ذلك، وأجازه إجازة عامة في كل تلك العلوم كما ارتحل رحمه الله إلى مدينة زبيد - العاصمة التاريخية لمنطقة تهامة اليمن - وأخذه عن علمائها، ومنهم العلامة محمد بن عبدالله بن زيد الشنقيطي الذي أعجب بنجابته فأولاه عناية خاصة وفي سنة 1320ه، اتجه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، والتقى بعلمائها وأخذ عنهم العديد من العلوم ، كما تردد على مكة مرارا واجتمع بعلمائها، وأخذ عنهم وأخذوا عنه (تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع)، وسافر الشيخ إلى مصر لتلقي العلم بالجامع الأزهر، ومن ثم عاد إلى أبي عريش، وأثناء مروره على بلدة ميدي التقى بالإمام محمد الإدريسي فأوكل إليه قضاء ميدي وتوابعها إلى عام 1344 ه، ثم تولى قضاء أبي عريش مدة طويلة وإلى قرابة عام 1360ه انتقل لقضاء (الحقو) واستمر قاضياً بها حتى عام 1365ه حيث طلب الإعفاء من القضاء فأعفي وكلفه الملك عبدالعزيز بتدريس العلوم الشرعية. حياته العملية تنقل الشيخ عبدالله بن علي العمودي في أكثر من مكان، فهو معروف من أعيان وعلماء المنطقة، واشتغل في القضاء، والتدريس، والوعظ والإرشاد لذلك فقد غادر مدينة أبي عريش إلى ميدي، والتقى هناك بالسيد محمد بن علي الإدريسي صديقه وزميل دراسته فكلفه الإدريسي بتولي القضاء في تلك المدينة وما جاورها، والإمامة والتدريس في جامعها وأجازه الإدريسي في (العقود اللؤلؤية في الأسانيد الدينية)، واستمر العمودي بوظائف القضاء، والإمامة، والخطابة، والتدريس، والوعظ والإرشاد في ميدي وتوابعها طوال عهد محمد بن علي الإدريسي، وعهد ابنه من بعده علي بن محمد الإدريسي، وفي عهد السيد الحسن بن علي الإدريسي تولى القضاء في مدينة جازان، وكان الشيخ عبدالله قد كلف ولعدة مرات بمبادرات إصلاحية وسياسية كما كان له حضور ومشاركات فاعلة في وفود التفاوض مع شيوخ وأعيان القبائل لإصلاح ذات البين، وكان وفياً مع الجميع الذين يبادلونه –بدورهم- صدق المحبة والوفاء، وفي العهد السعودي استمر في التدريس والقضاء والوعظ والإرشاد في «الحقو» وأبي عريش، والقرى المحيطة حتى عام 1365ه، إذ تقدم به العمر وأصبح شيخا كبيرا فطلب من الملك عبدالعزيز رحمه الله إعفاءه من وظيفة القضاء فلبى طلبه مع استمرار صرف رواتبه. وللقاضي العمودي منزلة وتقدير لدى الملك عبد العزيز، فقد أشاد بإحدى القصائد التي هنأ الملك فيها بالعيد وحظي بعناية الملك. مؤلفاته وإرثه الأدبي وذكر المؤرخون أن القاضي عبدالله العمودي رحمه الله ألف العديد من الكتب، وتميز بوفرة انتاجه حيث تنوعت مؤلفاته واشتملت على العلوم الدينية، والأدبية، والتاريخ والتراجم والأنساب، والرحلات، إضافة إلى شعره ومقاماته ورسائله ومن ضمن تلك المؤلفات تاريخ أسماه (اللامع اليماني في تاريخ المخلاف السليماني) تحدث فيه عن تاريخ جازان منذ العصور القديمة وحتى العهد السعودي وكذلك تاريخ المنطقة بشكل عام، إضافة إلى كتاب «الرحلة التعزية» يتحدث فيه عن رحلته التي قام بها إلى مدينة تعز والأحداث التي واكبت تلك الرحلة وكان يقصد بها مقابلة الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين ووصف ديوان الإمام ومجلسه وموظفيه وقصائد مديح قيلت فيه، وكتاب رحلة الأسفار فيمن لقيت من الأنظار: وخصصه العمودي لمشايخه، وأسانيده، وكذلك كتاب (المد الصيملي الفرق لفتوي الصيلمي) وهو عبارة عن مناظرة علمية شرعية بينه وبين بعض العلماء، وكتاب (المرشد والبيان المفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)، وكتاب (الدر النفيس في ولاية الإمام محمد بن علي بن إدريس)، إضافة إلى مجموعة من المؤلفات الأخرى المتنوعة، ولم تقتصر كتاباته «رحمه الله» على التاريخ وبحوره كعلم إنساني كالتوثيق الأحداث والتراجم والأنساب، بل له ديوان رسائل وقصائد شعرية ، واشتمل أدبه على المقامات والكثير من الكتابات النثرية ، ومن شعره وصية لأولاده في مرضه منها هذه الأبيات: أبني إن أوصي أوصي إليكم بخصال لا زلتم لها بتمسك الدين والتقوى وترك مآثم وحذار من كذب يشين بعرفك والصدق زين للفتى فاسموا به فالزمه حقاً لا عدمت هنالك الضيف لا تهمل مباشرة له وابسط له الوجه البشوش لزورك وصل المقاطع ما قطعك وصاله لتكون أفضل من غدا بقطاعك وأغمض عيونك عن عيوب غيرك تبقي الصديق وكذا التغافل فاسلك واحفظ صلاتك في جماعة إنه حال الرجال العارفين هنالك ولا تنسوا لي من الدعاء حقا لنا بالميت محتاج لذا من ناسك وفاته تقدمت السنون والأعوام بالشيخ عبدالله بن علي العمودي رحمه الله حتى ضعف بصره، وداهمته الأسقام والآلام وتعرض لأمراض الشيخوخة فلازم الفراش مدة من الزمن حتى توفي في آواخر القرن الهجري المنصرم عام 1398ه، في مدينة أبي عريش في منطقة جازان بعد مشوار طويل من التنقل والترحال في طلب العلم والإصلاح بين الناس وقد عُمّر إلى ما يزيد على مئة عام قضاها في سبيل مرضاة ربه جل وعلا، رحمه الله رحمة واسعة.