التحالف الروسي السوري ليس وليد اللحظة بل تعود بداياته إلى أكثر من ربع قرن، وكذلك الدعم الروسي لنظام بشار الأسد ليس بالجديد بل استمر من دون توقف في المجالين الدبلوماسي والسياسي منذ بدايات الثورة السورية عام 2011. ولكن الجديد في الأمر هو الإعلان الرسمي للكرملين عن تواجد عسكري روسي متزايد في سوريا لا سيما بناء قواعد عسكرية بالقرب من مدينة اللاذقية على الساحل السوري، الأمر الذي رأى فيه الكثير من المحللين السياسيين تجاوزا للعلاقة التقليدية مع نظام الأسد ليصل إلى تحد جديد للولايات المتحدة في سوريا. بل واعتبره آخرون مؤشرا جديدا على انحسار وتراجع للنفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط وهو ما شجع روسيا على الدخول بمؤامرات مكشوفة. فهل يقلق التدخل الروسي العسكري المعلن في سوريا الولايات المتحدة فعلا؟ الإجابة المختصرة على هذا السؤال هي: ليس كثيرا وعلى الأقل في الوقت الراهن. " من دروس العلاقات الدولية والتي تنطبق تماما على الحالة السورية أن الدول الكبرى لن تدخل في مواجهة عسكرية أو تحد جاد فيما بينها من أجل إحدى دول الهامش (وسوريا في هذه الحالة) مهما كانت أهميتها لدولة المركز (روسيا) " حدثني أهالي مدينة بريشتينا (عاصمة كوسوفو) أن أول القوات الدولية التي دخلت المدينة بعد انسحاب القوات الصربية، نتيجة الضربات العسكرية المكثفة لقوات الناتو عام 1999 كانت القوات الروسية، لدرجة أن الأقلية الصربية في المدينة اعتقدت أن روسيا تدخلت أخيرا وجاءت لنجدتهم ليكتشفوا بعد قليل أن القوات الأميركية والفرنسية والبريطانية كانت تتبع، وبعد ذلك تم تقاسم المدينة إلى عدة مناطق نفوذ كانت القوات الروسية تسيطر على إحداها. مما لا شك فيه أن أهالي بريشتينا -ولا سيما الصرب منهم- أخذوا درسا في حقيقة التحالفات والتناقضات على الساحة الدولية بعدما صدموا بتخلي حليفهم العقائدي والإستراتيجي -روسيا- عنهم عندما بدأت قوات الناتو بالقصف الجوي المكثف. أول هذه الدروس والتي تنطبق تماما على الحالة السورية هي أن الدول الكبرى لن تدخل في مواجهة عسكرية أو تحد جاد فيما بينها من أجل إحدى دول الهامش (صربيا وسوريا في هذه الحالة) مهما كانت أهميتها لدولة المركز (روسيا). الدرس الثاني والمهم لسوريا هنا أيضا أنه وعندما تتخذ إحدى دول المركز قرارا بالتصعيد العسكري والتدخل المباشر فإن الدول الأخرى غالبا ما تلجأ إلى البحث عن طرق للاستفادة من هذا التدخل أو تكييف أهدافها مع هذا التدخل وهو ما لجأت إليه روسيا التي أرادت أن تدخل بقواتها العسكرية إلى بريشتينا للمراقبة ولضمان عدم وقوع مجازر ضد الأقلية الصربية بدلا من أن تدخل بمواجهة مع قوات الناتو التي شجعت الدور المراقب للقوات الروسية. في الشأن السوري يذكرنا تعاون روسيا مع الناتو في كوسوفو بمقولة لافروف "إننا لن نقاتل بالنيابة عن أحد" التي قالها عندما احتدت المواجهة بعد استخدام الأسلحة الكيميائية في الغوطة وارتفاع احتمالات التدخل العسكري الأميركي ضد نظام الأسد. فالموقف الروسي لم يتغير وزيادة الترسانة العسكرية الروسية في سوريا لا تعني بأي حال أن القوات الروسية ستخوض حربا بالنيابة عن الأسد، فدروس أفغانستانوفيتنام حاضرة في أذهان القوى الكبرى التي عدلت من سياساتها بالانتقال من نموذج الحروب بالإنابة (عن الأنظمة) إلى نموذج الحروب بالوكالة (عن الدول الكبرى نفسها). هناك سببان رئيسيان وراء زيادة القوات العسكرية الروسية في سوريا، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة متكيفة تماما مع هذين السببين ولا يوجد ما يقلقها كثيرا من التدخل الروسي: أولا: محاربة تنظيم الدولة في سوريا والعراق. الولايات المتحدة تثق تماما بإخلاص روسيا في الحرب ضد الجماعات الإسلامية فتاريخها حافل بهذا الأمر في غروزني وغيرها، وعليه تشعر الولايات المتحدة بالامتنان وليس بالقلق من زيادة الالتزام العسكري الروسي بالحرب ضد الجماعات الإسلامية لا سيما أن تحالفها -أي الولايات المتحدة- الذي شكلته لمحاربة تنظيم الدولة قد مُني بالعديد من الهزائم ولم يحقق أي تقدم حتى اللحظة. ثانيا: منع الانهيار المفاجئ للنظام السوري. الانتقال المنظم للسلطة هو أحد أهم المبادئ التي تقوم عليها السياسة الخارجية الأميركية التي تكره الفراغ والانتقال إلى المجهول. فهذا ما قامت به أميركا في اليمن وحاولت القيام به أيضا في بداية الثورة المصرية عام 2011 عندما شجعت انتقالا منظما للسلطة من مبارك إلى عمر سليمان. " تخشى الولايات المتحدة كثيرا من انهيار مفاجئ لنظام الأسد وقد كان ذلك أحد الأسباب التي منعتها من التدخل العسكري ضد النظام بعد استخدام الاسلحة الكيميائية، حيث خشيت انهياره دون وجود مريح لها " اليوم تخشى الولايات المتحدة كثيرا من انهيار مفاجئ لنظام الأسد وهو لحد كبير كان أحد الأسباب التي منعت أميركا من التدخل العسكري ضد النظام بعد استخدام الأسلحة الكيميائية، حيث خشيت الولايات المتحدة انهيار النظام بدون وجود بديل في حال قامت بتوجيه ضربات عسكرية قوية ضد النظام. تجد الولايات المتحدة نفسها مرة أخرى في انسجام أكبر مع زيادة القوات العسكرية الروسية في سوريا لمنع انهيار مفاجئ لنظام الأسد. الولايات المتحدة إذا ليست فقط غير قلقة كثيرا من زيادة النفوذ العسكري الروسي في سوريا، بل في حقيقة الأمر هي متواطئة مع هذا التدخل في محاولة لإعطاء روسيا -التي ستتفاهم معها بنهاية المطاف- عبئا أكبر في محاربة المجموعات الجهادية والمحافظة على النظام حتى يتم إيجاد تسوية تتفق عليها الأطراف الدولية وانتقال منظم للسلطة. هناك العديد من المؤشرات التي تؤيد هذا التحليل أهمها ما ورد في خطاب أوباما في الأمم المتحدة الأخير الذي أعلن صراحة استعداد الولايات المتحدة العمل مع روسيا وإيران من أجل إيجاد تسوية سياسية في سوريا. ليست أميركا فحسب بل إن معظم الدول الأوروبية التي طالما طالبت برحيل الأسد دون قيد أو شرط قد بدأت تغير رؤيتها باتجاه عدم رحيله الآن، بل تراه كجزء من الحل يجب التفاوض معه من أجل محاربة تنظيم الدولة. موقف الجمهوريين الأميركيين هو الآخر يدعم هذا التحليل حيث تحدث زعيم صقور الجمهوريون في مجلس الشيوخ الأميركي جون ماكين -المعروف بتصريحاته النارية والداعم للتدخل العسكري المباشر في سوريا- عن عدم عمل إدارة أوباما ما يكفي لمنع التدخل الروسي في سوريا دون تقديم أي حلول أو إجراءات يجب على إدارة أوباما عملها لمواجهة هذا التدخل. من أهم الأسئلة التي تواجه مثل هذا التحليل هي حول الدافع الذي يجعل روسيا توافق على القيام بهذا الدور ومدى اطمئنان الولايات المتحدة لهذا الوجود العسكري الروسي على المدى البعيد. بالنسبة لروسيا فالأمر يساوي الثمن الذي قد تدفعه وأكثر، حيث لم يكن لها حتى أن تحلم ببناء قواعد عسكرية إضافية على الساحل السوري وتحويل هذا الجزء من سوريا إلى ثكنة عسكرية لها على البحر المتوسط، ربما توازي بأهميتها قاعدة إنجرليك الأميركية في تركيا وبشكل علني ورسمي ودون أن تكون هناك أي معارضة حقيقية أأميركية، بل وبمباركة هذه الأطراف. ليس هذا فحسب بل إن الوجود العسكري المكثف لروسيا في الجزء الغربي سيضمن لها ولحليفها النظام السوري إمكانية الانسحاب من المناطق المتوترة في سوريا وإقامة دولة علوية على الساحل تحافظ فيها روسيا على قواعدها العسكرية على ساحل المتوسط. ولخفض تكلفة التدخل ستمتنع روسيا عن المشاركة بالحرب البرية مهما بلغ الأمر وستكتفي بالضربات الجوية سواء كان ذلك ضد المجموعات الجهادية أو حتى المعارضة المعتدلة من أجل المحافظة على النظام. في ظل سيناريوهات كهذه فإن التدخل يساوي الثمن الذي قد تدفعه روسيا أو هكذا ترى. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فالوجود العسكري الروسي بدون شك يقلقها على المدى البعيد، حيث من الصعب التنبؤ بمستقبل عمل القوات والقواعد الروسية في منطقة بلاد الشام وبجوار حليفتها إسرائيل، ولهذا سارع بوتن بالحديث صراحة وبدون غموض عن ما سماه "احترام المصالح الإسرائيلية بسوريا". " أميركا غير قلقة كثيرا من زيادة النفوذ العسكري الروسي في سوريا، بل في حقيقة الأمر هي متواطئة مع هذا التدخل في محاولة لإعطاء روسيا عبئا أكبر في محاربة المجموعات الجهادية والمحافظة على النظام حتى يتم إيجاد تسوية تتفق عليها الأطراف الدولية وانتقال منظم للسلطة " الولايات المتحدة إذن تعي أن هناك مخاطر وقد يكون هناك ثمن لوجود قوات عسكرية روسية في سوريا من الممكن عدم السيطرة عليها مستقبلا لا سيما في حالة انعدام الثقة مع روسيا في أوكرانيا وغيرها، ورغم ذلك تفضل أميركا المضي بهذا الاتجاه -الدور العسكري الروسي في سوريا- الذي يخدم أجندتها تماما على المدى المنظور، أما المستقبل البعيد فلكل حادث حديث. فبنهاية المطاف ومهما تكن النتائج تعي الولايات المتحدة أن سوريا كانت ومنذ أكثر من عقدين حليفا روسيا لا يتزعزع -وليست أميركية- ومهما يكن الأمر فروسيا تستثمر عسكريا بإحدى حليفاتها وهو أمر يقع ضمن التفاهمات وقواعد اللعبة الدولية، فالولايات المتحدة لا تحتاج إذنا روسيا لتقوية وجودها العسكري مع الدول الحليفة لها كدول الخليج أو المغرب أو كوريا الجنوبية وغيرها. أخيرا، بقي أن نقول إن تفاهما أميركيا روسيا إيرانيا في سوريا سيثير العديد من التساؤلات حول الدور المستقبلي لكل من المعارضة السورية التي تصفها الولايات المتحدة بـ"المعتدلة" وستجد كل من السعودية وتركيا نفسها أمام اختبار صعب يتمثل إما بالموافقة على رؤية روسية أميركية وحتى إيرانية للمرحلة القادمة في سوريا، وإما تشكيل حلف مضاد يفرض رؤية مختلفة. وفي كلا الحالتين ستشهد المنطقة توترات إضافية وتعزيزا لأزمة الثقة بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين، لا سيما السعودية وتركيا، فسجل الولايات المتحدة أصبح حافلا بالصفقات الجانبية التي تصيغها منفردة مع خصومها كاتفاق تجريد النظام السوري من الأسلحة الكيميائية مقابل إطلاق يده في الحرب على المعارضة واتفاق "الخمسة زائد واحد" مع إيران دون إشراك الحلفاء الخليجيين بماهية الترتيبات التي بني عليها الاتفاق. سلسلة الاتفاقات الجانبية دون إشراك اللاعبين الرئيسيين في المنطقة ستكون لها نتيجة واحدة وهي زيادة حدة التوتر بين اللاعبين الإقليميين وبالتحديد تفاقم حالتي الحرب الباردة بين السعودية وإيران.