ما إن يحين شهر مايو من كل عام، حتى تتوافد آلاف السلاحف البحرية من أعماق المحيطات إلى شواطئ سلطنة عمان في جنوب شبه جزيرة العرب، لتضع بيضها في مشهد مهيب يحرص الآلاف من حول العالم على السفر إلى هناك لمراقبته عن قرب. السلاحف الخضر والحمر والزيتونية، سلاحف الشرفاف والسلاحف الرمانية، وتلك التي يطلق عليها لقب النملة، كلها اختارت هذه الشواطئ الهادئة في الجنوب الشرقي لعمان لتكون المكان الذي تتجدد فيه الحياة كل عام. على مسافة ساعتين ونصف الساعة من العاصمة العمانية مسقط، تقع ولاية رأس الحد التي تشتهر في كل أصقاع الأرض بأنها الموئل الأول للسلاحف البحرية المهددة بالانقراض، وبالتحديد النوع الذي يطلق عليه اسم السلاحف الخضر والذي يفضل أن يضع بيضه على شاطئ فريد من نوعه يطلق عليه رأس الجنز. المكان بمجمله هو محمية طبيعية وفقاً للقانون العماني، ويُمنع فيها الصيد خلال موسم تكاثر السلاحف، كما يمنع ممارسة الأنشطة أو حتى الوجود على الشاطئ منذ مغيب الشمس وحتى طلوعها فجر اليوم الآخر، وذلك حتى تتاح للسلاحف القادمة بالآلاف فرصة لتضع بيضها بأمان، لكن ذلك لا يمنع من إتاحة الفرصة للزوار لاستكشاف هذه المغامرة عن قرب ولكن ضمن شروط صارمة تضمن عدم تأثر السلاحف بذلك. وزارة السياحة العمانية أقامت في المنطقة عدداً من المرافق السياحية البيئية والمراكز العلمية لخدمة الزوار، وتعريفهم بالمحمية والنظام البيئي فيها، ويمكن للزوار التسجيل في المركز لزيارة الشاطئ ومراقبة السلاحف، برفقة مرشد متخصص يقدم شرحاً وافياً عن السلاحف وطرقها في التعشيش، وأساليب التمويه التي تتبعها للحفاظ على بيضها من الثعالب الحمر التي تنتشر في المكان. وبمجرد غروب الشمس يتجمع الزوار في المركز العلمي على شاطئ رأس الجنز، حيث يُقسّمون إلى مجموعات لا تزيد كل واحدة على 30 شخصاً يرافقهم مرشد عماني ومساعد له، يجيدان التحدث بعدة لغات إلى جانب اللغة العربية الأم، لتبدأ الرحلة مشياً على الأقدام على ضوء مصباح صغير يحمله المرشد ويقود المجموعة عبر سلسلة من الحفر الرملية بحثاً عن سلحفاة بدأت للتو بحفر العش الذي ستضع فيه بعد قليل مئات من البيض. يتحلق الزوار حول السلحفاة الضخمة التي يزيد طولها في بعض الأحيان على المترين، والتصوير ممنوع طبعاً لعدم إخافة السلحفاة ودفعها إلى تغير مكان العش وخسارة الفرصة. يبدأ المرشد شرح كيفية حفر السلحفاة لعشين متقاربين بمسافة من 5 إلى 10 أمتار على سبيل التمويه، إذ تترك المزيف مفتوحاً لخداع الثعالب بينما تردم العش الحقيقي بمهارة فائقة يصعب تماماً معها معرفة مكانه. وبعد أن تنتهي السلحفاة من عملية الحفر التي ينتج عنها دائرة يتجاوز قطرها المترين وعمقها قرابة المتر، تبدأ المرحلة الثانية في حفر عش البيض في مركز الدائرة الأولى، هذا العش يكون عبارة عن حفرة أسطوانية الشكل بقطر 40 سنتيمتراً تقريباً وعمق يتجاوز المتر، بعد الانتهاء من الحفر تبدأ عملية وضع البيض التي تستغرق قرابة نصف الساعة، تكون خلالها السلحفاة في أضعف حالاتها، إذ لا تستطيع التوقف أو المغادرة بعد بدء عملية الوضع، وهذه المرحلة هي الأخطر وفق ما يقوله المرشد، ففي حال وصول الثعالب في هذه اللحظات ستتمكن من أكل كل البيض من دون أن تستطيع السلحفاة الأم أن تفعل شيئاً، أما إذا جرت العملية بسلام فسيكون الناتج بين 80 و120 بيضة للسلحفاة الواحدة. يؤكد مرشدو محمية السلاحف أن فصيلة السلحفاة الخضر مسالمة تماماً ويمكن للإنسان الاقتراب منها من دون خطورة تذكر، أما النوع الآخر الذي يطلق عليه اسم السلاحف الحمر أو سلاحف ريدلي، التي يبدأ موسم تعشيشها خلال شهري سبتمبر وأكتوبر من كل عام، فهي سلاحف شرسة ويمكن أن تهاجم من حولها إذا أحست بالخطر، وتتميز بفكها القوي القادر على القضم، وهنا يؤكد المرشد تجنب الوقوف قبالة رأس هذا النوع من السلاحف والبقاء في الجهة الخلفية لجسد السلحفاة التي لا تستطيع الالتفات للخلف. المحمية الأكبر عالمياً تعتبر محمية السلاحف في رأس الحد أكبر المحميات مساحة على مستوى العالم، وتمتد على مساحة 120 كيلومتراً مربعاً من الشواطئ والأراضي الساحلية وقاع البحر، وهي الموطن الرئيسي للسلاحف الخضر، إذ يفوق عددها في الموسم 100 سلحفاة يومياً ليصل العدد الإجمالي في العام إلى ما يزيد على 15 ألف سلحفاة خضراء، تضع في المتوسط نحو 150 ألف بيضة يعيش منها بعد عام ما لا يزيد على 400 سلحفاة فقط، إذ تموت معظم السلاحف الصغيرة في عامها الأول نتيجة الافتراس الذي تتعرض لها من الكائنات البحرية الأخرى، أما السلاحف الناجية فستعود إلى رأس الحد بعد نحو 40 عاماً لتضع بيضها مجدداً لتستمر دورة الحياة من جديد.