لا يهمني كثيرا أن تكون رواية الكاتبة السعودية المعروفة/رجاء عالم، الموسومة بـ(طوق الحمام) والصادرة عام 2010م قد فازت بإحدى الجوائز الدولية المرموقة من عدمه، خاصة حين توجت بفوزها في جائزة (البوكر) للرواية العربية عام 2011م مناصفة مع الكاتب المغربي/محمد الأشعري عن روايته (القوس والفراشة) كما هو معروف وكما تم الاعلان عنه في حينه. صحيح أن هذا الفوز -بلا شك- شيء جميل ورائع جدا، حين تقوم بتحقيقه عن جدارة كاتبة سعودية كبيرة، يشهد الجميع لقلمها منذ عقود طويلة من الزمن بالابداع، وأمانة الكلمة وصدقها، وشرف حملها، بحجم رجاء عالم. وهذا كله -بالتالي- مما يحسب لصالح (الرواية السعودية) التي يعني لها هذا الفوز -على الأقل- تجاوزها المحلية والاقليمية، لتمتد خارج حدودها، مما يمنحها فرصة الوصول الى نسبة كبيرة من قراء هذا اللون الأدبي، ومحبيه والمهتمين به، المنتشرين في أنحاء متفرقة، وعلى نطاق جغرافي واسع. لكن ما أريد قوله -باختصار- هو إن الجوائز الأدبية، ومهما كانت قيمتها المادية والمعنوية شيء، والأعمال المرشحة لنيلها، وآلية الترشيح وقواعده وأسسه والقائمين عليه شيء آخر، ويختلف من مؤسسة أدبية الى أخرى! وأما في ما يخصني -أنا كقارئ- فقد اعتدت دائما أن أقرأ أي عمل أدبي يقع تحت يدي، محاولا أن استبعد من ذهني وذاكرتي -قبيل القراءة- أي خلفية مسبقة تتعلق بهذا العمل الأدبي أو ذاك من أي ناحية كانت، سواء أكانت مادية أو معنوية، وذلك كي تكون قراءتي له قراءة محايدة، وذات منحى مستقل، لا يتأثر بآراء من قرأوه قبلي، وبوجهات نظرهم، وتفاوتها، ومهما كانت ردات فعل هؤلاء القراء تجاه ما قرأوه، ايجابا أو سلبا. ولذلك قرأت (طوق الحمام) كغيري ممن قرأوها خلال العام الأول من تاريخ صدورها، فأعجبت بها أيما اعجاب! ليس لأنها الرواية (البوكرية)الفائزة بجائزة (البوكر) الدولية التي يتطلع اليها كثير من الروائيين العرب في هذا الزمان، بل ويعقد بعضهم آمالا وطموحات كبيرة لنيلها على أحد أعمالهم خلال الدورة الجديدة لهذه الجائزة من كل عام، وإنما لكونها رواية رائعة حقا، وعملا ابداعيا متميزا -فعلا- عن كثير مما سواه من الأعمال الأدبية الأخرى التي قرأناها، أو اطلعنا عليها، حتى لو لم تحصل على هذه الجائزة من الأساس. وعلى الرغم من مضي ما يقارب خمس سنوات على قراءتي لرواية (طوق الحمام) ونسياني لبعض تفاصيلها الدقيقة مع مرور الزمن، الا أن الذي لا يزال عالقا منها في ذهني، من شخصياتها الرئيسية، وأحداثها المحورية، وأزمنتها وأمكنتها كان كافيا الى حد ما لأن أوضح هنا انطباعي عنها بوجه عام عبر هذه الأسطر. ولعل الأسباب الرئيسية التي جعلت ذاكرتي ما تزال حافلة بالشىء الكثير عن هذه الرواية الرائعة تعود في مجملها الى ثلاثة أمور: - الأول: وهو أهمها، انني كنت أقرأها حبا في القراءة المركزة، الموضوعية المجردة للأعمال الابداعية، والاستمتاع بها، والاندماج في جمالياتها، ولم أكن أقرأها -في ذلك الوقت- بهدف الكتابة عنها. ولذلك كانت قراءتي لها أولى من كتابتي عنها، فالأولى كانت -بالنسبة الي- شبه اجبارية، بينما كانت الثانية اختيارية، اذ ليس من الضروري أبدا أن أكتب عن كل ما أقرأه، لكن من الضروري جدا أن أقرأ حتى لو لم يكن واردا في ذهني مسبقا أنني لن أكتب شيئا عما سأقرأه. - الثاني: (طوق الحمام) بطول امتداد صفحاتها الذي يقارب 600 صفحة رواية مركبة، ومزيج ابداعي معقد من عدة فنون تجمع فيما بين الأدب والعلم والتاريخ، بالاضافة الى الفنون الأخرى ذات العلاقة، كالتراث وعلوم الآثار والأساطير والخرافات وغيرها. وهذا التنوع الكمي والكيفي في المحتوى أو المضمون أعطى الرواية بعدا معرفيا شاسعا، وجعلها تتقاطع مع حقائق علمية ووقائع وأحداث تاريخية معروفة لكثير من الناس. وهذا مما سهل رسوخ بعض ما تناولته من هذه الحقائق والوقائع والمعلومات في ذهني، لكونها تتناول شيئا مما تحفل به ذاكرتي عن ذلك مسبقا. - الثالث: (وهو سبب لا يهمني كثيرا تفسيره حاليا) ان هذه الرواية قد فازت بجائزة دولية، ذات مستوى راق ومرموق، وكنت -وقتها- حين قرأتها أبحث وأتطلع الى معرفة تلك العوامل الفنية التي رشحتها لنيل هذه الجائزة، وما هي معاييرها تحديدا؟ وهذا ما جعلني أتأنى وأتعمق في قراءتها كثيرا، مما ساهم بدوره وبشكل غير مباشر في ترسيخ بعض ملامحها الفنية في ذاكرتي وذهني لفترة طويلة من الزمن، بخلاف غيرها من تلك الاعمال الأدبية التي سبق أن قرأتها سريعا، فنسيتها سريعا أيضا بالطريقة ذاتها. ونتيجة للأسباب سالفة الذكر، فما زالت الشخصيات الرئيسية في الرواية وأدوارها وفاعليتها في الحدث السردي ماثلة في ذاكرتي، مثل: شخصية (أبو الرؤوس) وهو الراوي بلسانه وبقلم الكاتبة، وشخصية (المحقق ناصر) ضابط الشرطة الذي كان يحقق في مقتل تلك المرأة، والعثور على جثتها، وأسباب قتلها المجهولة، وغيرها من الشخصيات الأخرى كـ(تيس العشي) و(عزة) و(عائشة) و(يوسف) التي كان لكل منها دوره الواضح في بنية الحدث السردي وتكامله في الرواية ككل. ولعل احدى سمات (طوق الحمام) وأبرزها هو تلك التحولات التدريجية في مسار أحداثها وطبيعتها، فهي كانت -أساسا- منذ بداياتها الأولى (رواية بوليسية) مليئة بمشاهد التحقيق الجنائي والتحري الأمني حول جثة امرأة وجدت مقتولة بطريقة غامضة، حتى أشارت أصابع الاتهام في مقتلها الى عدة شخصيات، تم استدعاؤها واستجوابها حول هذا الأمر. بعد ذلك اتخذت هذه القضية طابعا اجتماعيا، حين بدأت الكاتبة وكأنها تبحث في الظروف الاجتماعية المؤدية الى ارتكاب الجريمة، والتحليل النفسي الاجتماعي لعلم الجريمة، وخاصة في المجتمعات المتخلفة، أو غير المتحضرة، التي ينتشر بين أفرادها الفقر والعوز والجهل، وقلة الوعي، والشعور بفقدان الأمن والاستقرار. وفي مرحلة تالية توجهت للتاريخ، وربط ماضي شخصياتها بحاضرها، وكأنها تقارن بينهما، بين ماضي الحدث وشخصياته التي كانت، وبين الحاضر الراهن الذي لا يزال امتدادا لذلك الماضي. أما في المرحلة الأخيرة منها فقد توجهت الرواية لاستلهام التراث العربي والاسلامي، وتوظيف علم الآثار والأساطير، حيث انتقل مسرح الحدث السردي من البيئة الأصلية للرواية، ألا وهي (مكة المكرمة) الى (اسبانيا) ليتناول بعضا من مظاهر أثر الحضارتين العربية والاسلامية في (أوروبا) وخاصة في بلاد الأندلس (الفردوس المفقود). وقد تمثل لنا ذلك فيما روته امرأة (اسبانية) من أصل يهودي عن جدها المدعو (جوزيف بن تقرلا) وما حكاه لها عن تغير ملامح الحضارة الاسلامية في هذه البلاد مثل تحويل بعض المساجد الى كنائس في أعقاب استيلاء الاسبان المسيحيين على (الأندلس) واقصاء العرب والمسلمين عنها، واحتفاظ هذا الجد -كما رواه لحفيدته- ببعض الوثائق والمخطوطات القديمة التي تكشف لنا -ولأول مرة- عن معلومات تاريخية جديدة، نتيجة تلك الأحداث، لم تكن معروفة للباحثين والدارسين والمهتمين بعلم التاريخ والآثار من قبل. إن هذا التدفق السردي المهول للرواية، وانتقالها من مرحلة الى أخرى، تختلف كل منها عن سابقتها ولاحقتها، وتعدد المستويات الخطابية فيها، وتنوعها بين السردي والحواري، والواقعي والوهمي أو المتخيل، والديني والرومانسي والشعري والتاريخي، واختلاط هذه الأساليب، واندماجها ببعضها، كل هذا قد منح الرواية طابعا (غرائبيا) ذا مناخ وطقوس تعج بمفاجآت وتصادمات كثيرة بين العقلاني والوهمي، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين تاريخ الحدث السردي وجغرافيته وزمانه ومكانه. إنها رواية مشاكسة للواقع في كثير من جوانبها، وحتى لو تجاوزت الواقع بقليل أو بكثير فإنها تظل رواية ذات بنية فنية مميزة ومؤثرة، فالابداع -عموما- ليس بشرط أن يوافق الواقع، لأن العامل الأساسي فيه هو (الصدق الفني) وليس الصدق بمعناه المجرد على أرض الواقع. وخلال هذا كله كانت لغة الرواية (لغة ذات سقف عال) كما عرفت به كاتبتها من قبل، فهي لغة أدبية راقية جدا في المقام الأول. وهذه احدى سمات اسلوب رجاء عالم في كتاباتها الابداعية، التي جعلت اسلوبها متميزا عما سواه، لاتسامه بالعمق، وانعتاقه من محدودية الرؤية الى آفاق مطلقة من الخيال والتأمل والتفكر، ولاتسامه كذلك بنزعة دينية وروحانية تحلق خلالها النفس البشرية فيما وراء الطبيعة أو عالم (اللاوعي). ومن يعرف (رجاء عالم) ككاتبة معرفة جيدة فإنه لا يشك أبدا أن رواية (طوق الحمام) لم تكتبها الا رجاء عالم نفسها، حتى لو صدرت وتم نشرها دون أن يكتب اسمها على غلافها الخارجي!