×
محافظة المنطقة الشرقية

مسؤول كويتي: لن نطبق “البصمة” على السعوديين الزائرين

صورة الخبر

استوحى «بورخس» كثيراً من أحداث قصصه مما قرأ في بطون الكتب، فهو لا يؤمن بابتكار الأحداث السردية إنما بامتلاكها، وما أن يحوز على موضوع أو حدث حتى يغمره بأحاسيسه كاتباً بصيراً أو على شفا الكفاف، وقد خيّم عليه السهاد، وخامره القلق، وغزته الأحلام، فيدفع بشخصياته لإثارة أسئلة تشغله هو، أما هي فتنوب عنه في قول ما يفكر به، وطوال ذلك يلوذ بالصمت فلا يشير إلى نفسه إلا عرضا بصيغ مجازية تشي به لكنها لا تؤكد وجوده في تضاعيف القصة إلا حينما يقع اعتبار الراوي مؤلفا ضمنيا يكون صدى للمؤلف الحقيقي. تنكّب بورخس لتقاليد الكتابة المتوارثة من ناحية النوع والأسلوب، فكان يرمي نصوصه في أطر لا تمتثل لتلك التقاليد، فهو دائم الاقتراح للأشكال التي تستجيب لرؤيته، وقد شُغف بمشاهد سردية مكثّفة لا تُعنى بالحبكات إنما تنتهي بخاتمة مفاجئة، ولم يبذل جهدا لبناء متدرج لأحداث قصصه، إنما هي ومضات تجمع الأفكار إلى التخيّلات، وتقع في التخوم الفاصلة بين المقالة الاعترافية والحكاية الرمزية، وفيها يتوارى الوصف الذي يرسم ملامح الشخصية، وتشحب التفصيلات التكميلية للأحداث، فتنبثق حالة سردية قابلة للتأويل حيثما تغلّب ظن هذا القارئ أو ذاك بالقرائن المتناثرة فيها، وبهذه الطريقة للكتابة تميّز عن الآخرين، ما دعا «سارماغو» إلى القول بأنه «مخترع الأدب الافتراضي» فقد «انفصل عن الواقع لكي يكشف بشكل أفضل ألغازه، غير المنظورة». ظهر ذلك في قصته «بحث ابن رشد» التي جاءت ثمرة قراءته لكتاب «رينان» عن فيلسوف الأندلس. وفيها قدم بورخس مثالا يؤكد التداخل بين رؤيته كاتبا ومرجعياته الثقافية قارئا لابن رشد وسيرته الثقافية، وقد فسّر «إمبرتو إيكو» الأمر بقوله «ينسب القرّاء هذه الحالة اللامعقولة إلى مخيلة بورخس، ولكن ما يقصّه هو بالذات ما حصل لابن رشد». أما بورخس نفسه فقد عرض تعليلا يفيد أن ابن رشد تجلّى في مرآة نفسه، فتناول صورته كما رسخت في ذهنه، فيكون قرينا ثقافيا له «إذا كنت اخترت ابن رشد بطلا للقصة فلأن ابن رشد هذا ليس ابن رشد حقيقة، بل هو أنا.. لذا أواصل استدعائي لابن رشد، وفي نهاية القصة أعي أن ابن رشد هذا انعكاس لي، ومن ثم أجعله ينظر في المرآة. ينظر في المرآة فلا يرى أحدا لأنني لا أعرف كيف كان وجه ابن رشد، وهكذا تذوب القصة. وهذا كله ثمرة قراءتي لكتاب رينان عن ابن رشد». طرق بورخس في هذه القصة موضوع الجهل بالآخر، والعزلة الثقافية للأمم، وبناها على فرضية جهل ابن رشد بالأصول الثقافية الإغريقية، وغلبة المرجعية العربية عليه، ففيما كان يدوّن كتابه «تهافت التهافت» في الرد على كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزاليّ، مستفيدا من الترجمة العربية الركيكة لكتاب «فن الشعر» لأرسطو، اعترضه مصطلحان عويصان هما «التراجيديا» و»الكوميديا» فراح يبحث في المصادر عما يسعفه في توضيح المقصود منهما. شغل بالموضوع فعاد إلى الأفروديسيّ أحد كبار شرّاح أرسطو فلم يعثر على مطلوبه، وانكبّ يفتش في تضاعيف النص العربي للكتاب التي ترجمه القنّائيّ قبل مدة طويلة فما وجد شيئا مفيدا، ولم يكتف بذلك إنما نقّب في معجمين مهمين هما «العين» للفراهيديّ، و»المحكم» لابن سيده، فلم يقبض على شيء مما يريد، فتوقف عن التدوين بعد أن عجز عن عبور الهوة فصلته عن المضي في توضيح مقاصده، وتوجه إلى شرفة منزله حيث لفته ثلاثة فتيان اعتلى أحدهم كتف رفيقه، أما الثالث فركع على ركبيته خلفهما. كان الصبيان يؤدون لعبة غريبة استرعت انتباه ابن رشد الذي لم يخطر له أنهم يقدمون مشهدا تمثيليا للصلاة. مثّل الصبي الراكع دور المصلّي، فيما مثل الصبيان الآخران دوري المؤذّن والصومعة. تبلبلت أفكار ابن رشد، وعجز عن التفكير في موضوعه، فتوجّه إلى مجلس يضمّ نخبة من أصدقائه، وفيه رويت أخبار كثيرة، منها حكاية رواها أحد المتحدثين عن رجال غريبي الأطوار يلبسون أقنعة الحرب، ويتقاتلون بالقصب، ويتقدمون ويتراجعون بلا خيول، وما أن يسقط أحدهم قتيلا حتى ينهض مرة أخرى، وكأنه لم يتعرض لأذى، فما روي في المجلس كان عن معركة، ولكن تلك ليست بالحرب المعهودة التي يتبارز بها المتحاربون بالقصب عوض السيوف، فلا يموتون، ولا تسيل الدماء من أجسادهم، إنما يقومون دون أن يلحق بهم ضرر. لم تمر الحكاية مرور الكرام، فلم يصدق أحد بما سمع، واتُهم الراوي بأنه يختلق أحاديث عن معتوهين عابثين، لكن الراوي أخبر الحاضرين أن ما حدث لم يكن حقيقا إنما قدم هؤلاء الرجال بالتمثيل حكاية، فزاد المستمعون عجبا مما قال، فما سبق لهم تصور الأسلوب التمثيلي للحكاية، فعند الرغبة في الإخبار عن حدث فليس من الحكمة أن يتولى ذلك جماعة من المتحدثين إنما يكتفى براو واحد لها، فكيف يتأتى لعدد كبير من الأشخاص رواية حكاية واحدة؟ التزم ابن رشد الصمت طوال الوقت، فلم يكن على دراية بامكانية تقديم الأحداث بطريقتين: يجوز أن تُعرض، ويجوز أن تُروى. كان جاهلا بهذه التفاصيل، فلم يشترك بالسجال، ولما ختمت الليلة بالحديث عن الشعر الجاهلي وجد في نفسه الرغبة للانخراط في الحديث، فهو عارف بخصائص الأدب العربي القديم. وبانتهاء الجلسة فجرا قفل عائدا إلى منزله، وقد نشطته سهرة الأخبار الغربية بالتفكير مرة أخرى في الموضوع الذي شغله في أول المساء، فجلس، وكتب على عجل «يطلق أرسطو كلمة «تراجيديا» على المديح والإطراء، فيما يطلق على الهجاء والذم كلمة «كوميديا». اختار بورخس حادثة حقيقية، فقد وقع ابن رشد، الذي يجهل اليونانية واللاتينية، ضحية خطأ اقترفه القنائي في تعريبه المتعثّر، عبر السريانية، لكتاب «فن الشعر» وحينما أعجزه العثور على مقابل لمطلحي «تراجيديا» و»كوميديا» خطر له أن المقصود بهما «المديح» و»الهجاء»، ولم يعرف أنهما يحيلان على أنواع مسرحية عريقة في الأداب اليونانية، أنواع لها قواعد ومعايير معروفة، ولما كان ابن رشد جاهلا بالموضوع فقد جارى المترجم في الخطأ، فبحث ابن رشد كان بحثا في الخطأ وليس بحثا في الصواب. أراد بورخس القول بأن ابن رشد ارتكب خطأ فادحا مصدره الجهل بتاريخ الآداب اليونانية؛ لأن المديح عند العرب هو ليس «التراجيديا» عند الإغريق، وليس الهجاء هو الكوميديا، فكل من الأدبين له خصائص مختلفة عن الآخر في أغراضه وأبنيته وأنواعه. وسوء الفهم الذي رسخه ابن رشد هو الذي تسبب في شيوع الخطأ بالمماثلة بين الأدبين العربي واليوناني. كشف بورخس الخطأ الجسيم الناتج عن سوء فهم بين الكتّاب والمترجمين والشرّاح، فقد انتبذ بورخس مكانا في قرطبة، وشرع يراقب ابن رشد، وهو يفكّر، ويفسّر، ويقع في الخطأ؛ فكأن الكتابة هي المكافئ لخيالات الحالمين، إنها من نتاج الأرق الذي كان يخيم على الكاتب، وهي السلوى للهروب منه إلى ابن رشد القرين القديم لبورخس.