الإنسان هو الأصل وليس التكنولوجيا، والشعوب المأزومة فكريا لا يمكن أن تستفيد من أي تطور تكنولوجي مهما امتلكت قدرة الوصول إلى المنتجات التكنولوجية الحديثة، بل على العكس من ذلك حيث تستخدم هذه المنتجات بطريقة عكسية فتحول السيارات إلى قنابل كبيرة لتفجير الأسواق والجوالات كأجهزة للتفجير عن بعد وكاميرات الفيديو لتوثيق مشاهد النحر والقنوات الفضائية لنشر الأحقاد الطائفية والمفاخرات القبلية. وحين جاء الإنترنت للعالم العربي ظن الكثيرون أن بني يعرب وجدوا ما ينقصهم: (حرية التعبير) ما يعني أنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من اللحاق بركب الأمم المتقدمة، ولكن ما حدث هو الاتجاه الفوري للاستخدامات المتطرفة حيث سجلت أعلى نسبة من الزيارات للمواقع الإباحية وازدهرت منتديات التطرف الديني والتكفير. واليوم لا يمكن إخفاء الشعور بالخيبة حين نجد أن مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى مستشفى كبير للأمراض النفسية، فالصراعات الطائفية البغيضة أصبحت على عينك يا تاجر، والأطروحات الداعشية الدموية لم تعد شيئا مستغربا أبدا، والمناكفات القبلية الرخيصة التي تفوح منها رائحة العصبية المنتنة في كل زاوية من زوايا تويتر والفيس بوك ويوتيوب والواتس أب. وهذا كله كوم والسباب القذر الذي يتم تداوله يوميا في مواقع التواصل الاجتماعي كوم آخر، حيث لم يسلم أحد من هذا الهجوم أيا كان توجهه الفكري، فالشتائم القذرة والإشاعات التي تدل على مرض أصحابها تطال الكل مهما كان توجههم أو طبيعة عملهم، ولم يسلم منها رجال السياسة أو شيوخ الدين أو الإعلاميون أو الرياضيون أو الفنانون أو حتى الأبرياء الذين اتجهوا لهذا الفضاء هروبا من الواقع المأزوم فوجدوا أن العالم الافتراضي أكثر تأزما وتوحشا. العرب اليوم بحاجة ماسة لاستعادة إنسانيتهم ومقاومة جهلهم أكثر من حاجتهم للتكنولوجيا والإنترنت، وإلا فإنهم سيظلون بحاجة دائمة للرقيب الذي يحدد لهم ماذا يقولون وهذه مأساة تاريخية، ويكفيكم أن الشعوب العربية التي جاءتها الديمقراطية بعد عقود من القهر اتجهت فورا نحو الصراعات الطائفية الدامية ما جعل الكثير منا يترحم على أيام الطغاة الذين رحلوا، ومن المتوقع أن تستغل فضاء الحرية في الإنترنت لنشر الكراهية وتعزيز الانقسام ودعم الإرهاب بكافة أشكاله. نعود لنقول بأن الأصل هو الإنسان.. والجهل هو السجن الكبير الذي لا يمكن التخلص منه حتى لو رحل السجان!.