تعتبر الدراسات السوسيولوجية في الوطن العربي، بمعناها المنهجي المتعارف عليه حالياً، دراسات حديثة نسبياً. وذلك على الرغم من أن العلماء والفلاسفة العرب قدموا تاريخياً أطروحات اجتماعية كبرى، لا تزال محافظة على قوة إشعاعها. إن الجهات المعنية، في عموم الوطن العربي، يجب أن تتحمل مسؤولياتها في إنجاز دراسات سوسيولوجية ذات جدارة حول المرأة، تكون منطلقاً لتنميتها. وهذه الدراسات يجب أن تتصف بالموضوعية، والإحاطة بالأبعاد المختلفة لسيسيولوجيا المرأة، وأن تستند إلى معطيات الواقع وعناصره الفعلية وإذا انطلقنا من بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، يُمكن ملاحظة أن غالبية الأبحاث السوسيولوجية (والمسوح البحثية) العربية، في العقد السادس، قد انصبت على تحليل تكوينات المجتمع العربي، وتقسيماته الرأسية تارة، والطبقية تارة أخرى، مع غلبة بيّنة لهذه الأخيرة. لم يكن هناك كثير اهتمام لدى الباحثين الاجتماعيين في الوطن العربي بدراسة التقسيمات الرأسية للمجتمع، وكانوا ينظرون إلى الحديث عن هذه التقسيمات على أنه نزوع سلبي موروث من الحقبة الاستعمارية. في المقابل، هيمن تحليل التقسيمات الطبقية على الجزء الأكبر من اهتمام الاجتماعيين العرب. وكان لانتعاش التيارات اليسارية، على أنواعها، دور رئيسي في رواج هذه الاهتمامات في الوسط البحثي العربي. وفي الحقيقة، أنه على الرغم من الجهود العلمية التي جرى بذلها، فإن فلسفة التقسيم الطبقي لم تنسجم وواقع الحال القائم في البلاد العربية، وإن وجدت لها أرضية في أوروبا، التي كانت منبعها. ولذا، لم يكن من الواقعي، بحال من الأحوال، الارتكاز على الدراسات التي استندت إلى هذه الفلسفة. وكان الأجدى بالاجتماعيين العرب حينها أن ينصبوا على دراسة عوامل النهوض الاجتماعي، في سياقه الجامع، وسبل تعزيزه والارتقاء به، بدلاً من الاستغراق في مقولات التقسيم الطبقي. مقاربات السبعينيات من القرن العشرين، بدت متقدمة في اهتماماتها على تلك التي سادت في العقد السادس، حيث نجد فيها محاولات عديدة لتحليل الدولة، في سياقها الاجتماعي التاريخي. وهذه المقاربات، وإن وجدت في العقد السادس وقبله، إلا أنها كانت أقل حضوراً مما بدا في السبعينيات وبعدها. والدولة التي جرى الاهتمام بتحليلها من قبل الاجتماعيين العرب هي غالباً الدولة القطرية. أما الحديث عن الدولة القومية في سياق عربي فلم يكن هو الأصل في الدراسات السائدة، بل كان الاستثناء، وأحياناً كان بمثابة مقدمة لدراسة الدولة القطرية. وعلى الرغم من ذلك، يُمكن الوقوف على عدد من الدراسات، ذات الطبيعة المرجعية، التي تناولت الدولة القومية العربية، وفلسفتها ومبرراتها وسبل تحقيقها. وقد صدرت غالبية هذه الدراسات عن أحزاب سياسية كبرى، عابرة للأقطار. وبين مرحلتي تحليل الدولة ومقاربة تكويناتها الاجتماعية والثقافية، كانت السيسيولوجيا العربية قد دخلت معركة أكثر حساسية هي تحليل الهوية، أو تعريفها، أو إعادة تعريفها. هذه المعركة، بدت شاقة وشديدة التعقيد. وكانت على قدر كبير من التموضع في الوقت ذاته. وقد دارت، على مستوى الدراسات الاجتماعية، بين التيارين القومي والماركسي، قبل أن يدخل الإسلاميون كطرف ثالث. وعلى الرغم من أن هناك الكثير مما يُمكننا قوله على هذا الصعيد، إلا أن جوهر الموقف يتلخص في أن الإنسان العربي له خصوصيته على مستوى الهوية، بحكم الجغرافيا والتاريخ والحضارة المشتركة. بيد أن هذه الخصوصية لا تنفي عالمية ارتباطاته، ولا تتنافى في الوقت نفسه مع انتمائه الديني. والدين أكثر رحابة واتساعاً من أي منظور آخر. والهوية بمفهومها (الغربي) المتعارف عليه عالمياً لا تمثل تعبيراً رديفاً للدين. وهذا ليس موضع بحثنا في هذه السطور. وبالعودة إلى الدراسات السيسيولوجية العربية، فقد تقدمت هذه الدراسات خطوة أخرى، ولكن هذه المرة باتجاه قراءة البنية (أو السمات) الاجتماعية للمرأة، أو لنقل سيسيولوجيا المرأة. وفي الأصل، فإن هذه المقاربات بدت حاضرة، بصفة عامة، في المكتبة العربية، سواء في سياقها التقليدي أو المنهجي الحديث. هذه المهمة على درجة كبيرة من التعقيد، بالمدلول المعرفي العام، كما بمدلول المنهج، والتحليل وأدواته. وقبل ذلك في الحسابات المعيارية والقيمية. ثمة إشكالية في المصطلح رغم مشروعيته، وإشكالية في التأصيل رغم جوازه، وإشكالية أكثر وضوحاً في المناهج المعتمدة. وتلك حكاية أخرى. وعلى الرغم من ذلك كله، ليس هناك من خيار سوى الإمساك بمصطلح سيسيولوجيا المرأة العربية، والعمل على إعادة بنائه، حلاً وتركيباً، على نحو يعزز من مضمونه، ويجعله أكثر قدرة على استيعاب طيف عريض من عناصر التحليل، ومناهجه وأدواته. وهذه ليست مهمة بحث أو جملة بحوث، بل هي بالضرورة نتاج جهد نظري مديد. وهناك منظومة عناصر تدخل منهجياً في دراسة سيسيولوجيا المرأة، إلا أننا سنكتفي هنا بالتوقف عند عنصري المكان والركائز الثقافية. تبرز جغرافيا المكان كأحد المحددات الأكثر محورية، في صياغة وتوجيه مقاربة سيسيولوجيا المرأة، وتحديد نتائجها النهائية. على نحو تقليدي، ركن الباحثون الاجتماعيون إلى ثنائية المدينة – الريف، في بحثهم عن جذور الفضاء السيسيولوجي للمرأة. بيد أن هذه الثنائية، وإن بدت صحيحة في المجمل، إلا أنها تبقى واهنة، أو في الحد الأدنى غير وافية. البُعد المكاني، في واقع الأمر، أكثر تعقيداً من هذه الثنائية، فهناك الساحل والداخل (أو الجبل في بعض الأقطار)، وهناك السهوب والصحاري، وهناك الفلاحة والبداوة. وهناك أخيراً المدن شبه الميتروبولية والمدن الصغيرة، التي تطوّرت عن القرية بمرور الزمن، لكنها ظلت تحمل الكثير من سماتها. هذه المنظومة المكانية المتنوعة، أو التعددية، لم يجر ملاحظتها في الأعم الأغلب من الدراسات السيسيولوجية، ذات الصلة بالتحليل المكاني لشخصية المرأة العربية. والنتيجة هي ضياع كبير في المفاهيم والتوصيف، أو لنقل على مستوى المضمون والمصطلح، واستتباعاً النتائج والدلالات. وكخيار منهجي علمي، فإن المرأة العربية يجب تعريفها بداية استناداً إلى المكان، باعتباره الحاضنة الأولى للأعراف والتقاليد، والموّلد لها في الكثير من الأحيان. ومن دون الدقة في التحديد المكاني، فإن الاستنتاج قد يصبح مجافياً للواقع، وربما مناقضاً له تماماً. هذه أولى الإشكاليات التي لازالت تفرض نفسها على الدراسات السيسيولوجية العربية الخاصة بالمرأة. من الإشكالات الأخرى، الارتكاز إلى ثنائية الأصالة والمعاصرة في قراءة الفضاء الثقافي والديني للمرأة. وهذه إشكالية كبرى، أتت ضمن سياق سوسيولوجي أوسع نطاقاً، أو لنقل استندت إليه. لقد اعتنت الدراسات السيسيولوجية، ذات الصلة بالمرأة، بالدين كمحدد محوري للسلوك، والانتظام الحياتي العام. وهذا أمر حميد، متى اتجه اتجاهاً صحيحاً، علمياً خالصاً، غير معياري وغير نمطي. بيد أن هذا الاتجاه الصحيح نادراً ما حدث. وكما الدين، كذلك جرت مقاربة الأعراف الموروثة وعلاقتها بالمرأة. وهنا، بدت الإشكالية أكبر من سابقتها. فهذه الأعراف لم يتم تعريفها على نحو صحيح، وجرى فيها الكثير من الخلط والتعميم، وألصقت بالدين تارة، وهي ليست منه، وتارة ألصقت بالفضاء القبلي، وثالثة بالبداوة، ورابعة بالريف والفلاحة. وبالمنظور المنهجي، أخفقت الدراسات السيسيولوجية العربية في وضع محددات ضابطة لقياس العرف، وأخفقت قبل ذلك في التأصيل له، وأخفقت أيضاً في حصر نتائجه، وعدم الخلط بينها وبين ما هو إفراز لمعطيات أخرى. وبركونها إلى ثنائية الأصالة والمعاصرة، سقطت الدراسات السيسيولوجية في فخ الأدلجة والمعيارية القاتلة. وهنا، كانت الدراسات الخاصة بالمرأة أولى ضحايا هذه الهوة، وهذا الوادي السحيق. لم يكن هناك من بمقدوره تقديم تعريف خالص للمعاصرة لا تشوبه المعيارية. ولم يكن هناك أيضاً من يطرح رؤية صافية لموقع الدين من المعاصرة، أو موقع المعاصرة من العرف الاجتماعي العام. إن الذي حدث حتى الآن هو أقرب للإسقاطات التعسفية، البعيدة عن المنهج العلمي وأدوات التحليل ذات الجدارة. وخلاصة إن المرأة العربية لم تتم مقاربتها سيسيولوجياً على نحو صحيح. والمسؤول عن ذلك هم الاجتماعيون العرب، بالدرجة الأولى، والمؤسسات المعنية بالمرأة بالدرجة الثانية. إن الجهات المعنية، في عموم الوطن العربي، يجب أن تتحمل مسؤولياتها في إنجاز دراسات سوسيولوجية ذات جدارة حول المرأة، تكون منطلقاً لتنميتها. وهذه الدراسات يجب أن تتصف بالموضوعية، والإحاطة بالأبعاد المختلفة لسيسيولوجيا المرأة، وأن تستند إلى معطيات الواقع وعناصره الفعلية، دونما تحريف أو تحوير، أو إعادة تعريف أيديولوجي. وفي الوقت ذاته، نحن بحاجة أيضاً إلى منظومة عريضة من الدراسات المتعلقة بالقضايا المختلفة للمرأة العربية، المتجهة صوب بناء هذه المرأة وتطوير قدراتها، ودمجها في برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والارتقاء بدورها في الحياة العامة وخدمة المجتمع. والدراسات السيسيولوجية العربية ذاتها، لا بد أن تدخل في إعادة بناء واسع النطاق، وتعمل على تطويع المناهج وأدوات التحليل لتغدو قادرة على الاستجابة لمعطيات الواقع. وهي معنية، في الوقت ذاته، بتحديد سلم أولوياتها ليغدو الإنسان العربي هدفها الأول، وأن تبتعد عن الدوران حول ذاتها، أو إعادة اختراع العجلة، وأن تغدو مقارباتها على درجة من التأصيل، المرتكز لحقائق الأمة ومعطيات وجودها.