بسقوط الدولة العباسية، انقرض أدب الفكاهة والسخرية وانقطعت سلالة أبي نواس وابن الرومي والجاحظ وسواهم من الظرفاء. زالت البسمة من وجوه الناس وتحول القوم إلى البكائيات والمآتم واللطم. غير أن الشعوب لا يمكن أن تعيش من دون ضحك وفكاهة، فما الذي يميز الإنسان عن الحيوان غير القدرة على الضحك؟ سرعان ما استعاد الجمهور روح الدعابة والتنكيت، ولكنها انتقلت من قلم الشعراء والأدباء إلى ألسنة الحلاقين والبنائين والخياطين ونحوهم من أصحاب الحرف. فالواحد منهم يقضي النهار من طلوع الشمس إلى ما بعد غروبها يكد في عمله المضني والرتيب. كيف يقضي هذه الساعات الطوال دون أن يجن ويفقد عقله وصوابه؟ عمد بعضهم للغناء فحصلنا على أغاني الحرفيين، كأغاني الحياكين، يغنونها على إيقاع المكوك وهم يحيكون خيوط القماش صفا فصفا. عمد البناءون إلى قراءة المقام. ويظهر أن الحلاقين والخياطين والمكوجية ركنوا إلى عالم الفكاهة والتنكيت. اشتهر من هذه الفصيلة في العراق في أواخر القرن التاسع عشر السيد عبد الله الخياط. ما زال العراقيون يروون الكثير من طرائفه ومقالبه. كان دكانه يقع في منطقة علاوي الحلة من جانب الكرخ، المنطقة التي اعتاد عرب البادية على التردد عليها والتبضع منها. جاءه واحد منهم ذات يوم بقطعة قماش خام لا تتجاوز الذراعين أو الثلاثة. وطلب منه أن يخيط منها دشداشة (جلابية) له. عاين القماش ثم قال له على العين والرأس. تعال بعد يومين وخذها حاضرة. بيد أن الأعرابي تأمل في الموضوع ولمس سرعة الجواب واستعداد الخياط. بدأ الشك يساوره. فطمع في أكثر من ذلك. قال له: لا، بل اعمل لي منها دشداشتين. أجابه قائلا: يصير، تكرم. على العين والرأس. تعال بعد يومين. تشجع الأعرابي إلى أكثر من ذلك. فقال له: لا، اعمل لي منها أربع دشداشات. على العين والرأس! يصير بتساهيل الله. ولكن الأعرابي استمر بهذا النهج، حريصا على ألا يسرق الخياط شيئا من القماش. فرفع الرقم إلى ست دشداشات. ومضى الخياط يهز برأسه إيجابا ولا يحاول أن يناقض أو يجادل هذا الزبون. تعال بعد يومين، قال له. وانصرف الأعرابي فرحا بما فعل. مر اليومان وجاء الأعرابي ليتسلم الدشداشات الست. فقدمها له عبد الله الخياط. ست دشداشات لا يتجاوز طول كل منها شبرين أو ثلاثة، ثوب لدمية، لعابة تلعب بها البنيات! ثار الأعرابي على ما رأى. ازبد وعربد وأشهد الله على هذه المظلمة وهذا المقلب والمكر من أولاد الحضر. تجمع القوم في السوق ليروا ما حصل. فاستغرقوا بالضحك عما رأوا وما قاله الخياط. ذراعان قماش خام ضاعت على الأعرابي الفقير. فتبرع أصحاب الدكاكين وجادوا بما يلزم من قماش لصنع دشداشة واحدة تكفي هذا الأعرابي لسنوات. وكان الله مع المحسنين. وكانت طرفة تسلى بها القوم لأعوام.