×
محافظة المنطقة الشرقية

اليوم الوطني / السير الذاتية لرواد تأسيس المملكة العربية السعودية تحت لواء الملك عبدالعزيز - رحمه الله - / الإضافة الرابعة والعشرون

صورة الخبر

بين تنزه حجاج الأمس وحجاج اليوم صور ومشاهدات ومفارقات تجسد بجلاء المتغيرات التي صاحبت التنزه بمكة المكرمة وما حولها من قرى في رحلة الحج، ويستحضر حجاج من كبار السن ذكريات موغلة في القدم، يشبعون الذائقة من خلالها، وهي التنزه في مزارع "وادي فاطمة" المعروف تاريخاً بوادي "مر الظهران". ويروي كبار السن في "وادي فاطمة" كيف كان الحجاج الآسيويون يقدمون ب"اللوري" والحافلات القديمة للاستمتاع ببركه المائية ومزارعه الوارفة الظلال، ومساقي الماء التي تنساب بقوة بين أشجار النخيل والنيم والأثل والنبق، مما حوّل تلك الفترة إلى حراك استثماري لملاك المزارع والعاملين فيها داخل الوادي، الذي يقع على بعد (30كم) نحو الشمال من مكة. ويذكر مؤرخون أن الرحالة "إبراهيم رفعت باشا" وصف الوادي في مرآة الحرمين وذلك بعد عودته من الحج في عام 1325ه -وهو من الرحالة الموثوقين في وصفهم وتحرياتهم- قائلاً: "وقد بتنا بوادي فاطمة على مسير ثماني ساعات من مكة، وهذا الوادي به ثلاثون عيناً جارية ماؤها شديد العذوبة، هاضم للطعام وبه أراض زراعية يزرع فيها القاوون والبطيخ والبلح". أمّا العياشي في رحلته المعروفة بالرحلة العياشية وهي ضمن رحلات الحج المغاربية الشهيرة فيصف مزروعات الوادي وصفاً جميلاً: "ونزلنا بالوادي وهو نهاية سير البوادي، وهو وادٍ خصيب يرى فيه طالب النزهة أوفى نصيب، أغصانه زاهية وقطوفه دانية، وأطياره ناطقة وجداوله دافقة، ومزارعه تنبت من كل زوج بهيج، وعلى كل حديقة سياج". وتغيرت وجهة الحجاج اليوم، حيث أن المساحات الزراعية تقلصت في مكة، ليُفضلوا الذهاب إلى الأسواق -المولات- المغلقة والفاخرة، والتي باتت من أكبر مواقع التنزه التي تجذبهم، خاصةً في ظل ارتفاع درجات الحرارة التي تجعل من الأسواق المكيفة الخيار الأفضل، إلاّ أنه من المهم تكثيف أنشطة الزراعة لسد حاجة مكة من المحاصيل وفق برنامج زراعي واسع، خاصةً أن هناك خططاً لزيادة عدد الحجاج مستقبلاً في ظل التوسع في استقبال الحجاج. كثرة المحاصيل وظل "وادي فاطمة" محطة زراعية يأنس بها الحجاج خلال ذهابهم وإيابهم للحج، إذ يجدون فيها مستراحاً لإقامتهم المؤقتة، فوقوعه على الدرب السلطاني هيأ لهم هذه الميزة الجميلة، حيث يتبضعون من منتجاته ومن سوق الجموم حاضرة الوادي. وبفضل الطمي الطيني ومجلوبات الصخور النارية المعدنية تكونت طبقة أرضية زراعية ممتازة للزراعة سواء كانت إروائية أو مطرية وتزيد مساحة الأراضي بشقيها عن (150كم2)، وما يصفه الحجاج والرحالة لا يمثل إلاّ منتصفه فقط، وقد تعرضت في السنوات الأخيرة إلى تدمير منظم لهذه الأراضي الزراعية وتقليص رقعتها وتحويل الأراضي الزراعية إلى مسطحات يابسة تمهيداً إلى تحويلها إلى صناديق اسمنتية، بفضل ثغرات في القانون الزراعي، ولم تضع حداً نافذاً لتدهور الأراضي الزراعية، وما قدمه رحالة الحج من وصف زراعي يثبت مدى القيمة الثقافية والحضارية لهذا الوادي وكيف يمد مكة بمحاصيله الزراعية الجيدة. وقد حظي بما يزيد على ثلاث دراسات أكاديمية زراعية، وهي محفوظة اليوم في مراجعها، وبفضل مده الزراعي المتواصل غذى مكة بكثير من المحاصيل، بل لم يشعر الحجاج في الماضي أثناء إقامتهم بنقص في المواد الغذائية نتيجة تدفق المحاصيل وتكسب المزارعين من هذه المحاصيل الاقتصادية. متنفس السكان وفي هذا الشأن أمكننا أخذ مرئيات بعض المؤرخين والمهتمين بتاريخ "وادي فاطمة"، حيث يقول الأستاذ عبدالرحيم الأحمدي الذي عمل مديراً للتنمية الاجتماعية بالوادي في عام 1386ه وممن عمل على تطوير النشاط الزراعي داخله خلال فترة عمله: عُرف "وادي فاطمة" بالوادي الأخضر، وقد كان نهراً جارياً، ثم تحول إلى جداول ثم ينابيع وعيون، ثم أصبح اليوم مدناً متجاورة يمتد بعضها نحو الآخر، مضيفاً: "لقد عرفنا دورة الفصول، مما يحتمل عودة المياه إلى مجاريها، ولقد عرفنا أيضاً ما للشجر من دور في تجميل الطبيعة وتلطيف الجو ومده بالأكسجين في عمليات معروفة علمياً"، مبيناً أنه يذكر كثير منّا كيف كان وادي فاطمة مصدر كفاية من التمور والفواكه والخضروات والأعلاف لمدينتي مكة المكرمة وجدة -عروس البحر الأحمر-، مشيراً إلى أنه كان متنفساً لسكان هاتين المدينتين والوفود القادمة إليهما، مؤكداً على أن التوسع السكاني الذي يشهده الوادي وما يضخ إليه من ماء سيكون له تأثير في تغذية التربة وعودة الطبيعة الخضراء للوادي. واجب وطني وأوضح الأحمدي أن الحدائق والمتنزهات من ضرورات الحياة، والإبقاء على الأراضي الزراعية واجب وطني تجب المحافظة عليه لتعود إلى ماضيها أو تستبدل حدائق تضفي على المدن جمالاً وتبقى متنفساً طبيعاً للسكان، مضيفاً أنه ما عادت المساحات الموجودة اليوم تلبي الحاجة الاقتصادية التي تنتج عن الزراعة، مبيناً أنه على الأقل يجب المحافظة عليها لئلا يطغى البناء على أرض طبيعتها الخصوبة والإنتاج، ذاكراً أنه تمثل قنوات العيون تراثاً حضارياً لملامح الماضي العريق للوادي، مُشدداً على أهمية المحافظة عليه تاريخاً وتراثاً وعناية وتعبيراً عن فهمنا للواقع ومستجداته، ولما للموروث من أهمية في تأريخ ووعي الأمم. عمق زراعي وتحدث بدر اللحياني -من مؤرخي وادي فاطمة وممن وثق بعض المناشط البشرية داخله- قائلاً: منذ العصور الإسلامية المبكرة شكّل وادي فاطمة عمقاً زراعياً لأهل مكة، وظل مورداً اقتصادياً مهما جداً خاصةً إبان فترة الحج، حيث تنشط الحركة الاقتصادية ويزداد الطلب على المحاصيل الزراعية، وبهذا تكونت مردودات اقتصادية جيدة للطرفين، وبفضل مزروعاته نشأت ثقافة مائية واسعة جداً وموروثاً زراعياً عميقاً، وهو ما نجده عند مؤرخي مكة القدماء ك"الهاشمي" و"ابن فهد"، بل لا تخلو رحلات الحج من وصف للبقع الزراعية بالوادي، كما حباه الله ببنية جيولوجية جوفية سهلت حفظ هذه المياه وتدفقها، مضيفاً أننا نجد بعض الدراسات الجيولوجية الأكاديمية تشير إلى تجويفات صخرية جوفية غير مسامية على شكل أحواض حفظت المياه وسهلت إعادة إنتاجها بشكل يسير ومنها العيون المتدفقة والآبار وتوافر الأراضي الرطبة، مبيناً أنه من الممكن أن تعود المياه لسابق عهدها لو أمكن تثبيت مشروع التنمية المستدامة، كما أن هناك فرصة كبيرة جداً كي تعود الزراعة إلى سابق عهدها بشرط الإبقاء على الأراضي الزراعية بشقيها المروي والمطري.