أصبح اتجاه الفن الفطري ظاهرة رائجة في الوطن العربي، يلقى إقبالاً من طرف الكثير من الفنانين الذين اتجهوا إليه عن وعي، وأصبحوا يمارسونه، وقد اغتنموا فرصة التلقائية التي يوفرها لهم، والحرية في العمل والتصور، فهو لا يضع قيودا مسبقة أو تصورات منهجية على الفنان الذي يمارسه، وقد دخلت هذه الظاهرة الإمارات منذ مدة وصار لها رواد، برزت أعمالهم في هذا المجال، وحازوا اهتمام الجمهور، واختطوا لأنفسهم مكانة في الساحة الفنية الإماراتية. الفن الفطري هو مصطلح يطلق أنواع من الأعمال الفنية التشكيلية، قائمة على التلقائية، تصدر من فنانين ذاتيي التعلم في الغالب، وتتسم بالبساطة في الأداء والاسترسال وراء ما يمليه الخيال في لحظة الانهماك في العمل، وعدم الخضوع لشروط الفن الصارمة، والفن الفطري هو أصل الفن البشري لأنه استلهام لما كان يقوم به الإنسان في العصور القديمة من أعمال فنية في بدايات التاريخ البشري، حيث لم تكن الخبرة البشرية قد راكمت بعد تقنيات ومعايير للفن الجميل، ولم تكن شروط الإبداع الفني قد استقرت، فكان الإنسان يرفّه عن نفسه، ويبث أفكاره ومشاعرة بالفطرة عبر خطوط ونقوش وتلوينات يحفرها على باطن الكهف الذي يسكنه، أوجدار البيت الذي بناه، أو على الجلود أو أدوات الحرب التي يستخدمها، أو ينحتها في الصخور والخشب، فيصنع من كل ذلك صورا تحاكي بطريقة بدائية مظاهر الطبيعة المجسدة أمام عينه. في العصر الحديث استهوى الفن الفطري المبدعين، وظهرت موجة فنية قامت على استلهام عمل الفنان البدائي، والاستفادة من عشوائيته، وقد كان الدافع إلى ذلك التوجه هو القناعة بالحرية المطلقة للفنان، وكون وضع المعايير أو الشروط النقدية هو تقييد لتلك الحرية، وخداع للمشاعر التي ينبغي أن تكون صادقة وتلقائية، وهكذا اندفع فنانون عالميون مشهود لهم بالإبداع وقوة الموهبة إلى ممارسة هذا النوع من الفن، منهم بول غوغان الرسام الفرنسي الذي استبدت به فكرة الحرية المطلقة، فتخلى وهو في أوج عطائه الفني عن حياته الباريسية وشهرته، وعمله الرسمي، وكذلك زوجته وأولاده، معتبرا أن كل ذلك قيود، تمنع الإنسان من ممارسة الفن الحقيقي، وتضعه في سجون وهمية لا تمت للحياة الطبيعية التلقائية بصلة، واستقر به المقام في جزر هواي، حيث اكتشف الأعمال الفنية البدائية لسكان تلك الجزر، فأخذ في محاكاتها، وأنتج أعمالاً فنية تركت أثراً بالغاً في مسيرة الاتجاه الفطري، وكذلك استلهم بابلو بيكاسو عناصر من النحت الإفريقي وخاصة العيون المفتوحة وملامح الوجوه المشابهة للأقنعة، وفهم المنظور فهماً خاصاً، ويظهر ذلك في لوحة فتيات أفينيون التي مهدت للاتجاه التكعيبي عنده، وعلى المستوى العربي كان الفنان الفلسطيني إبراهيم غنام المتوفى سنة 1984، من أول من استوحى الفن البدائي في أعماله، وأشهر لوحاته في هذا المجال لوحة الحصاد، وكذلك الفنان المصري محمد علي الذي قدم أعمالا فنية فطرية، دلت على مواهبه الفنية الأصلية، رغم أنه كان أمياً، ولم يخضع في عمله لأية معايير فنية أو مدرسية يمكن أن توجه عمله، فكان يقوم بما يقوم به بتلقائية مطلقة، وانصب اهتمامه على رسم المواليد الدينية، وحفلات الزواج، وزحام الأسواق، وألعاب الأراجوز، وصخب الباعة الجائلين والمدّاحين وصور المشربيات، والبيوت القديمة والنسوة بالملاءات والأزياء المزركشة. وعلى مستوى الإمارات يعتبر الفنان أحمد الأنصاري أبرز الفنانين التلقائيين، فقد اتسمت أعماله بشيء من الفطرية التي تقوم على رشاقة حركة الفرشاة النابعة من استمتاع الفنان بما يقوم به، فهو يرسم كل ما يراه ويحبه من عناصر بيئية طبيعية يتعامل معها ببساطة، ويرسمها كأنه يتحدث إليها ويبادلها مشاعر المحبة، وكان اكتشاف الأنصاري لموهبته أثناء الدراسة الابتدائية، وبعد أن حصل على الثانوية العامة التحق بالجيش، لكنه ظل يرسم، وفي عام 1979 نظمت له وزارة الإعلام معرضاً شخصيا في أبوظبي، عرّف بإبداعاته وأكسبه شهرة كواحد من الفنانين الإماراتيين المتميزين، والذين تقوم موهبتهم على التلقائية وشحنة العاطفة، من دون الاهتمام كثيرا بالمعايير الفنية الأكاديمية، كما كرمه المعرض الدوري للفنون التشكيلية لفناني مجلس التعاون لدول الخليج العربية في دورته الثالثة عام 1994، ومن الفنانين الإماراتيين الذين كان لهم ولوع بالمدرسة الفطرية الفنان الدكتور محمد يوسف رغم كونه فناناً أكاديمياً حاصلاً على أعلى الدرجات الجامعية في الفنون التشكيلية، إلا أنه في مدة ما أحب هذا اللون من الفن ومارسه في مجموعات فنية استوحت أعمال الفنانين البدائيين التي لا تلتزم بالمنظور والأبعاد الهندسية في الرسم، وتركز على رسم الحيوانات والأشكال البشرية وأنواع الأدوات والأسماك، وأنواع الأدوات التي كانت تستخدم في مختلف أنشطة الحياة التقليدية. ويعتبر الفنان الإماراتي محمد عبدالله أبولحية نموذجاً خاصاً من الفنانين الفطريين، فهو فطري بحق، لم يدرس الفن، ولم يخضع لأية مدرسة أو معايير فنية، وتخصص في ما عرف بالنحت البارد، الذي يجمع بين النحت والتشكيل عبر إعادة تدوير مجسمات من الخشب والأحجار والعظام أو أي مادة أخرى موجودة في الطبيعة، بتلوينها ونقشها، وإعطائها شكلاً جديداً، تماماً على نهج الإنسان البدائي عندما يعيد إنتاج أشياء الطبيعة المشخصة أمامه، ليصنع منها أداة للصيد أو الحرب أو اللّبس أو تحضير الطعام أو غير ذلك من الأدوات، لكنّ الفارق بين أبولحية وبين الفنان البدائي أن فطرية ذلك كانت بدافع جعل تلك الأدوات تؤدي وظيفة، أما فطرية أبولحية فلا يحدوها إلا الفن.