هل بوسعنا أن نولد من جديد؟ بالطبع لا أقصد ولادة عضوية، ولكن ولادة روحية أخلاقية، بمعنى أن نجدد رؤانا وسلوكياتنا الحياتية ولندع أوزار الماضي تموت دون أن نظل نحملها على ظهورنا. لقد هيأ الله تعالى لأجسادنا فرصة تجديد خلاياها باستمرار، خلايا الجلد على سبيل المثال تتجدد مرة واحدة كل شهر، بل إنك خلال سنة واحدة تكون 98% من خلايا جسمك قد تبدلت بالكامل أعني أنك تكون إنسانا جديدا كل عام. لكن الأهم هو تجديد سلوكياتنا، بالتوقف عن ممارسة التصرفات التي أصابتنا بكثير من الإخفاق، وأعاقت قيامنا بدورنا الإيماني والاجتماعي والإنساني. نحتاج نقطة تحول تنطلق بنا إلى حياة جديدة. هناك مواقف تصيبنا قد تمثل نقطة تحول ما في مسارنا، مثل حادث أليم أو مرض مفاجئ أو فشل عاطفي، من باب الابتلاء كما جاء في الحديث القدسي: «إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني وصبر على ما بليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا.» رواه أحمد، لكن نقطة التحول الحقيقية هي التي يؤديها الإنسان بنفسه، وهذا ما أتاحه الإسلام لنا على مدار العام، بما شرعه من صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك من قربات. ويأتي الحج في ختام السنة ليكون بحق أكبر انطلاقة نحو ولادة جديدة في عام جديد، وأشار إليها حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه»؟ وهذه الولادة الجديدة مشروطة بنزاهة أخلاقية تترفع عن فاحش القول وفاسد الفعل في فترة المناسك.. وأول بشائر هذه الولادة الجديدة محو أخطاء الماضي وفي الحديث: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». والحقيقة أن سؤال (ماذا بعد....؟) مهم بعد الانخراط في موقف تعبدي، حتى ننتفع من الجهد الذي بذلناه في الطاعة في إحراز تغيير إيجابي في حياتنا حتى لا نكون «كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا» (92) سورة النحل. عندما يؤدي المسلم الفريضة حسب أركانها، ثم لا تحقق أثرها في سلوكه وعلاقاته بعد انقضائها، فالفقهاء يتحدثون عن سقوط الفريضة عن الانسان وبراءة ذمة الحاج، لكن الثواب ينقص بقدر ما لم يتحقق من غايات الفريضة وآثارها. ومن أقوال بعض السلف: «من علامات الحج المبرور أن ذلك يظهر بآخره فإن رجع خيراً مما كان عرف أنه مبرور». وما دمنا نتحدث عن ولادة جديدة فلا ننسى ألم المخاض، فبدء حياة جديدة تتطلب من الصبر والاحتمال ما تتحمله المرأة حتى تضع مولودها الجديد.. نحتاج إلى الصبر عن المال الحرام والفواحش، نحتاج إلى الصبر على الطاعات، وحسن الأخلاق. لقد بين لنا القرآن أحوال الناس بعد قضاء المناسك في سورة البقرة في أربعة نماذج: 1-نموذج المادي، «فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ» (200) سورة البقرة 2- نموذج الحريص على سعادة الدارين، وقال الله فيه «وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (201) سورة البقرة. 3-نموذج المخادع «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ» (204) سورة البقرة. 4- نموذج المحب لمرضاة الله قال الله فيه: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ» (207) سورة البقرة. بقي أن أقول: الولادة الجديدة ليست في الحج فحسب، حسبك أن تقوم للوضوء، كما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئته من كفيه مع أول قطرة فإذا غسل وجهه نزلت خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرة فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له ومن كل خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه فإذا قام إلى الصلاة رفعه الله عز وجل بها درجة وإن قعد قعد سالما» رواه أحمد وصححه الألباني. بوسعنا إذن أن نولد من جديد فماذا ننتظر؟ هيا نبدأ على الفور لنسعد بحياتنا الجديدة.