لم نعد نستطيع القول: إن بيانات التنديد والشجب والاستنكار التي تصدر في الأزمات من الجانبين الفلسطيني والعربي لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، وهو ما يشمل قوله عما صدر حول الاعتداءات على المسجد الأقصى. فقد وفرت أجهزة الحاسوب ذلك الحبر الذي كانت تكتب به مثل هذه البيانات. وباستثناء ما فعله ويفعله أولئك المرابطون والمرابطات في المسجد، وما فعله ويفعله أولئك الشباب في المحيط، فإن كل مواقف الشجب والاستنكار، أو دعوات ضبط النفس، يمكن أن تندرج تحت بند لزوم ما لا يلزم! فليس هناك من يجهل أن الجماعات اليهودية المتطرفة هي المسؤولة عن التصعيد والتوتر الحاصلين في المسجد الأقصى ومدينة القدس عموما، وأنها منذ سنوات طوال تدعو وتعمل من أجل هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث المزعوم على أنقاضه. كذلك ليس هناك من يجهل أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كانت تدعم وتحمي وتشجع، حيناً في السر وحيناً في العلن، تلك الجماعات لأنها لا تختلف معها في الأهداف. فماذا تفيد المقالات، أو الخطابات منزوعة الدسم والفعل في ظروف كهذه؟ وما الذي تعنيه دعوات ضبط النفس للجلاد والضحية على حد سواء؟ ألا تعني الانحياز الكامل للجلاد وضد الضحية؟ وما الذي تحققه نداءات الاستغاثة بمن انحاز للمعتدي، أو ماذا تنفع اجتماعات مجلس الأمن ما دامت نتائجها معروفة سلفاً ؟! وإذا كان ذلك كله معروفاً، فأي قيمة لمقال من خمسمئة كلمة، أو لدراسة من خمسة آلاف كلمة، لإثبات أن الجماعات اليهودية المتطرفة هي المسؤولة عن التوتر والتصعيد والاعتداءات الجارية؟ أو لإثبات أن حكومة بنيامين نتنياهو هي المسؤولة عن تحركات المستوطنين وجرائمهم اليومية؟ أو لإثبات أن المواقف الأمريكية والأوروبية المنحازة تمثل في واقع الأمر تشجيعاً للجماعات اليهودية المتطرفة، ولحكومة نتنياهو والمستوطنين لمواصلة ما يفعلونه ويقدمون عليه يوميا؟ لقد قال كاتب يهودي صهيوني إسرائيلي، يصنف في خانة يسار اليسار اسمه جدعون ليفي، في مقال نشرته (هآرتس- 18/9/2015). عبارة قالها في سياق يتحدث عن حب إسرائيل: عندما يكون الأساس متعفناً، لا تحل المشكلة بالحب ! ونحن نستعير العبارة منه ونقول: عندما يكون الأساس متعفنا، لا تحل المشكلة ببيانات التنديد والشجب، ولا بخطابات الاستنكار، ولا حتى بالحب، حب المسجد الأقصى، أو حب فلسطين! الإسرائيليون، كل الإسرائيليين، المتدينون المتطرفون، واليمينيون العلمانيون، واليساريون من كل الدرجات، لهم مهمة واحدة هي تزوير الوقائع ومحاولة تضليل الرأي العام العالمي، ودائما لا تخرج عن تفاصيل اللحظة! والغرض النهائي هو إظهار إسرائيل والإسرائيليين كضحية للمشاغبين الفلسطينيين ! والغريب والمستهجن أنهم ينجحون في جرنا، فلسطينيين وعرباً وعالماً، إلى المستنقع الذي يريدون. هل لأنهم عباقرة في تحقيق ذلك، أم لأننا جميعا، ومعنا العالم الحر، نريد ذلك؟ الإسرائيليون، معظم الإسرائيليين، يسعون لإقامة دولة يهودية وديمقراطية! ومع أن العبارة تلغي نفسها، إلا أنهم يؤكدون اتساقها، فالتعاليم التوراتية في نظرهم لا تتناقض ولا تتعارض مع الديمقراطية ! والموقف الإسرائيلي الرسمي يعلن القدس عاصمة إسرائيل الأبدية، وهم يقولون ما قاله ديفيد بن غوريون منذ ما قبل قيام الدولة: لا قيمة لليهود من دون إسرائيل. ولا قيمة لإسرائيل من دون القدس. ولا قيمة للقدس من دون الهيكل ! المسألة واضحة بالنسبة إليهم، ونحن الذين نعطي كلامهم معاني لا يحملها! هم يريدون كل فلسطين وأكثر، يريدون أرض إسرائيل كلها، والمسألة مسألة وقت. الجميع يعتقد أن وزير الخارجية الأمريكية الأشهر، اليهودي هنري كيسنجر، هو مبتدع سياسة الخطوة خطوة، والحقيقة أن الوكالة اليهودية هي التي ابتدعتها قبل أن يولد! وإذا كان هو قد أعادها إلى مسرح السياسة الدولية، فلأنها من إرث أجداده ! وعليه، فإن ما جرى ويجري هذه الأيام في القدس، لا ينفصل عما جرى من قبل 1948 وبعدها، ولا يختلف عنه في شيء تنفيذياً. لقد أصبحت القضية تبدأ بما جرى في العام 1967، ولذلك يمكن القول إن ما تتعرض له القدس، والمسجد الأقصى منذ تلك الهزيمة، لا ينفصل ولا يختلف عما تتعرض له الأراضي المحتلة. وهذا يعني أن أساس ما يجري هذه الأيام أجازه وسمح به احتلال 67. والسكوت عن هذا الاحتلال، والمساومة على الأراضي التي احتلها، يبقى الأساس. إن الصهاينة من كل الجنسيات تلاءموا مع الاحتلال الإسرائيلي وتواطأوا مع المخططات الإسرائيلية. والحكومات الإسرائيلية واعية لهذه الحقيقة، لذلك لا تخيفهم البيانات، ولا تقلقهم الخطابات الفلسطينية والعربية، ولا الانتقادات الدولية. لكن يقلقهم ما يمكن أن يفعله الشباب الفلسطيني في حواري القدس وشوارع الضفة، يقلقهم اندلاع انتفاضة ثالثة، إلا أنهم جاهزون لما هو أكثر من السور الواقي الشاروني. واطمئنانهم إلى التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، وإلى حقيقة المواقف العربية والأمريكية والدولية، تجعلهم بعكس أمين عام الأمم المتحدة، ووزير الخارجية الأمريكية، لا يشعرون بقلق حقيقي! باختصار، ما يفعله الفلسطينيون تحديدا، تنطبق عليه المقولة اللبنانية... إنه تغميس من خارج الصحن! الصحن هو الاحتلال، وهذا يحيل على الفصائل الفلسطينية المسلحة. سيتحجج البعض بالوضع العربي المنهار، وبعدم القدرة على إشعال حرب جديدة! ولن ينتبهوا أنهم لن يحموا الأقصى، ولن يشبعوا المرابطين فيه، طالما يغمسون من خارج الصحن ! awni.sadiq@hotmail.com