ترك الراحل سامي مكارم، المفكر والشاعر والمؤرخ والفنان والأستاذ الجامعي، مخطوطات عدة لم يتسن له أن يصدرها بعدما وافاه الأجل، لكنّ أسرته قامت بهذا الواجب وعهدت إلى دار صادر مهمة إصدار ثلاثة منها، هي: «ن والقلم»، «زهرة الليلك»، وهما كتابان شعريان، و«رحلة بلا طريق». في «ن والقلم»، وفي نصٍّ بعنوان «مرآة»، يخاطب مكارم الحبيب الأعلى بالقول: «رحلة حبي إليك/ رحلة بلا طريق/ لا مكان لها ولا زمان!» (ص242). وفي مقدمة سيرته الذاتية يتساءل تساؤلاً إنكاريًّا: «إذًا هل لرحلة الحياة طريق؟» (ص5). وفي ختام السيرة يقول: «وبعد، ها أنا مستمرٌّ في رحلتي بلا طريق... للطريق نهاية، أمّا رحلتي فلا نهاية لها. تجاوزت الأبعاد، وتخطّت المكان إلى اللامكان والزمان إلى اللازمان...» (ص249). وهكذا، يحدّد مكارم غاية الرحلة ووسائلها. هي رحلة حب إلى الحبيب الأعلى، متحرّرة من محدوديّة الزمان والمكان، ومن قيدَي البداية والنهاية. هي حلقة في سلسلة أزلية - أبدية بالمعنى الروحي للكلمة، وبالمعنى الداخلي للرحلة. غير أن ما يشي به العنوان «رحلة بلا طريق»، وما يحمّله الكاتب من دلالات مفارق لمتن السيرة، حيث الرحلة مقيّدة بزمان ومكان وطريق وصحبة وحصاد؛ فزمان الرحلة هو عمر صاحبها الممتد بين 14 نيسان (أبريل) 1931 و21 آب (أغسطس) 2012، ومكانها هو القرى والمدن والمدارس والجامعات والبيوت، وطريقها تمتد من المهد إلى اللحد وتتفرّع وتتشعّب وتتنوّع وتختلف، والصحبة هم الأهل والأصدقاء والزملاء والمريدون والتلاميذ، وحصادها عشرات الكتب والبحوث والأعمال العلمية، وآلاف الندوات والمحاضرات، وعشرات اللوحات الفنية. في سيرته الذاتية، يتناول مكارم، على مدى ثلاثة عشر فصلاً، حياته في مراحلها العمرية المختلفة، ويتبع الزمن الكرونولوجي بين الفصول المتعاقبة لكنه قد يخرق هذه الكرونولوجية داخل الفصل الواحد، فيقدّم ما حقّه التأخير أو العكس. وتزخر السيرة بالمواقف والحالات والأحوال التي يمكن أن يمرّ بها الإنسان في حياته، على الصعد العاطفية والعملية والفكرية والدينية، وترصد حياة صاحبها في تموضعاته المختلفة، وفي علاقاته بالأسرة والرفاق والأصدقاء وزملاء العمل والطلاب والمريدين، وتُظهره تلميذًا ومعلّمًا وأستاذًا وباحثًا وناشطًا اجتماعيًّا وصاحب رسالة نذر نفسه لها. وهكذا، سيرة سامي مكارم هي سيرة دراسة وتدريس وبحث وتأليف ونشاط اجتماعي، ثقافي وديني وفني... وفي كل من هذه الحقول، ثمة شخصيات عرفها، وتفاعل معها، تأثّر بها أو أثّر فيها. وبذلك، لا تعود السيرة مجرّد سيرة ذاتية، بل تتعدّى الذات إلى الآخر أسرةً ومجتمعًا ومدرسةً وجامعةً. في «رحلة بلا طريق»، يصحبنا مكارم إلى المدارس والجامعات التي درس فيها، بدءًا من مدرسة المعلم محمود في الضيعة، مرورًا بمدرسة الليسيه الفرنسية في بيروت، والكلية اللبنانية في سوق الغرب، وصولاً إلى الجامعة الأميركية في بيروت، وجامعة ميشيغان الأميركية. وهو، على ما حقّقه في دراسته من إنجازات توّجها بشهادة الدكتوراه في الفلسفة، لا يتورّع عن ذكر إخفاقات مرّ بها صغيرًا أو صبيًّا... ويصحبنا إلى المدارس والجامعات التي درّس فيها، من الكلية اللبنانية في سوق الغرب، إلى ثانوية الصراط في عاليه، وصولاً إلى الجامعة الأميركية في بيروت حيث يعرف الاستقرار العملي وإن مشوبًا ببعض المكائد في مرحلة معيّنة. سيرة اجتماعية والسيرة، بعد، هي سيرة كتبه وبحوثه المختلفة التي أربت على الثلاثين كتابًا وبحثًا في حقول معرفية مختلفة، فيبيّن تاريخ وضع كلٍّ منها وظروف كتابته. وهي سيرة فنية تتناول مسيرته التشكيلية التي بدأها متأخّرًا، في الأربعين من العمر، في محاولة منه لاستعادة والده الراحل، وقد بدأها مقلّدًا إيّاه ثم تحرّر من التقليد ليختطّ أسلوبه الخاص، وتمخّضت هذه المسيرة عن معارض سنويّة وعشرات اللوحات الجميلة. وهي سيرة ثقافية اجتماعية، في إطار رسالة نذر نفسه لها، بدأها بمحاضرة في التوحيد في خمسينات القرن الماضي، واستمرّ بها في ندوات أسبوعية وثلث أسبوعية أحيانًا، وتمخّضت عن آلاف المحاضرات والندوات، وعشرات الأصدقاء والمريدين. وهكذا، يكون مكارم قد عمل بنصيحة صديقه إيلي سالم الذي ربط نجاح الأستاذ الجامعي بوضع المؤلّفات العلمية، والتعليم، وخدمة المجتمع، فراح يوزّع وقته على هذه المقوّمات الثلاثة، وهو كثيرًا ما ردّد هذه النصيحة في فصول السيرة المختلفة. على أنّ تيمات أخرى راحت تتكرّر بدورها في هذه الفصول، ومنها: الحضور الراعي للأب، الرسالة المكلّف بها، الإيمان بالنظام الكوني العاقل الوجود، الدروس المستخلصة من الوقائع المختلفة، لحظات الضعف التي تصيبه بالغرور وغيره وما يقرأ فيها من رسائل وإنذارات. وبين هذه التيمات تستأثر شخصية الأب، بأبعادها المختلفة، بحصّة الأسد. تحضر شخصية الأب في سيرة مكارم منذ الصفحة الأولى للفصل الأول، ويُفرد لها فصلاً مستقلاًّ بعنوان «والدي شعلة لم تنطفئ»، وقلّما تغيب عن أيٍّ من فصول الكتاب. وهو ينظر إلى أبيه بكثير من الاحترام والإعجاب، ويرسم له صورة مثالية إنسانًا وفنّانًا وشيخًا، ويبدو منجذبًا إليه، معجبًا به إلى حد التقديس، معترفًا بفضله إلى حد الذوبان فيه. أما الإنجازات الكبيرة التي تحفل بها السيرة، الفكرية والعملية، وتقترب من المثالية لا سيّما في إيمان صاحبها بأنه منذور للقيام برسالة ما، فإن مكارم لا يتورّع عن الاعتراف بلحظات ضعف انتابته أو البوح بخصوصيات أُسَريَّة معيّنة، ما ينزل بالسيرة إلى عالم الواقع. فهو يعترف بإصابته بالغرور أحيانًا: «لقد كان الغرور يعميني والإعجاب بالنفس يقتلني: دكتور في الفلسفة يتسكّع من باب إلى باب» (ص105)، لكنّه سرعان ما يعود إلى رشده بعد أن يقرأ رسالة النظام العاقل الوجود. «رحلة بلا طريق» سيرة مثالية - واقعية. وإذا كانت ترصد حركة الشخصية في الخارج وتموضعها في أطر معيّنة وانخراطها في شبكة علاقات متنوِّعة، فإن الوجه الآخر للسيرة هو في داخل الشخصية، بأفكارها ومشاعرها ومكابداتها ومقاماتها وأحوالها، ما يجعل منها رحلة إلى الذات بقدر ما هي رحلة إلى الحبيب الأعلى، بل قد تكون الأولى الممرَّ الإلزامي للثانية، وعندها لا تعود الطريق مهمّة، المهم غاية الرحلة لا الطريق المفضية إليها.