الخير شوار-الجزائر في كتابه الجديد "كفن للموت"، يقتحم الكاتب الجزائري عبد الرزاق بوكبة مغامرة جديدة في القصة القصيرة بنَفَس تجريبي، مشتغلا على موضوعة واحدة هي الموت الذي ظل حاضرا في المتن السردي الجزائري المعاصر بشكل ملفت. وعلى عكس المجاميع القصصية بشكلها المعروف، يتجه بوكبة إلى تجذير تجربته السردية الأولى التي بدأها في "من دس خُفّ سيبويه في الرمل؟" واختار لها مكانا بين الشعر والسرد، واستمر معها في "أجنحة لمزاج الذئب الأبيض" الصادرة منذ سنوات، والتي بدت أقرب إلى السرد بشخوصه وأحداثه. وفي كل التجارب، ظل بوكبة محافظا على تقنية "التحولات" كما صاغها الشاعر الروماني القديم "أوفيد" في عمله الشهير الذي حمل هذا الاسم. ويبدو الاشتغال على الفراغات واضحا في هذا المتن، كأن البياض الذي يحيل إلى الكفن يقول أشياء كثيرة لم تقلها تلك الحكايات المسلسلة والمتحولة بشكل مستمر. وبين البياض والكتابة تلتقي النصوص عند لحظات تبدأ بحياة وتنتهي بموت، كأنها في جانبها الشكلي تحيل إلى موت لفن القصة القصيرة وانبعاثه بشكل آخر. ويبقى هذا المتن مستعصيا على التصنيف، فإن نُسب إلى القصة القصيرة فذلك من باب التجوّز، وليس غريبا أن وُضع على غلافه عبارة "حشرجات قصصية". لعبة المرايا يعود بوكبة في هذه "الحشرجات" -الصادرة عن دار العين بالقاهرة- إلى الحكاية في بنيتها الأولى، فتبدو بسيطة وسرعان ما "تحاصر" حكاية أخرى فأخرى، ويصبح المشهد أكثر تركيبا دون أن يفقد الخيط الرفيع الذي يجمعه،وكأننا بصدد لعبة المرايا التي تبدأ مسلية، لكن سرعان ما تصيب لاعبها بالدوار وهو الذي يجد نفسه داخل متاهة حقيقية. " تعددت العناونين الفرعية للقصة/الحكاية الواحدة، وكأن السارد يدرك أنه لا يمتلك الحقيقة، بل يحاصرها بتعدد الرواة، تماما على طريقة الكتابة التراثية التي تكثر فيها العنعنة ويمتد السند " وتعددت العنوانين الفرعية للقصة/الحكاية الواحدة، وكأن السارد يدرك أنه لا يمتلك الحقيقة، بل يحاصرها بتعدد الرواة، تماما على طريقة الكتابة التراثية التي تكثر فيها "العنعنة" ويمتد "السند"، دون أن يدعي الكاتب "الوصاية" على قارئه، لكنه يحاصره من كل جانب من حيث لا يحتسب. ولئن كانت القصص أو "الحشرجات" الكبرى للمجموعة تحمل عنوانين بكلمة واحدة في العموم، فإن "الحشرجات" الفرعية قد تكون في شكل جمل اسمية أو فعلية. ومع البداية تبدأ قصة للقصة، ولا يأتي وجهها الآخر أو نهايتها إلا مع نهاية المتن نفسه، كأن مجموع الحكايات تلك بين فكي كماشة القصة الكبرى التي كانت مجرد فكرة في ذهن كاتبها، بقي يشاكسها وتشاكسه، كأنها من لحم ودم ليحملها وقد انكسرت إلى "مستشفى الكلمات". وربما كان المتن كله هو من شظايا تلك القصة التي كان يحاصرها الموت من كل جانب، كأن شخوصها مجرد أرواح غادرت الأجساد وتكون قد ماتت منذ زمن ولم يبق لها إلا صدى صوتها الذي يتردد في كل حين. هاجس الموت لهذا السبب جاء السرد مقتصدا إلى درجة أن بعض "الحشرجات الجزئية" لا يتجاوز طولها السطر الواحد، واكتفى السارد هنا بالتلميح الأقرب إلى الشعرية، عوضا عن الإطناب والتصريح الذي يبقى من سمات السرد بمفهومه الكلاسيكي. " الموضوعة الرئيسية لهذه الحشرجات لم تكن معزولة أو جديدة في المتن السردي وحتى الشعري المعاصر الذي ولد من رحم مأساة الاحتلال ونيران الثورة التحريرية، إلى أن جاءت محنة جزائر التسعينيات " وربما يكمن السر في أن الكاتب نفسه جاء من حقل الشعر الذي مارسه طويلا، قبل أن يقتحم مغامراته السردية التي تعددت بين المسرح والرواية والقصة القصيرة. الموت الذي يحضر انطلاقا من العنوان يمتد إلى آخر المتن، ويباغت الشخوص من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وكأن التجربة كلها اتخذت من مقولة أبي الطيب المتنبي "تعددت الأسباب والموت واحد" شعارا لها. وتتجاوز هذه الفكرة الفعل المادي إلى المعنوي في سياق اجتماعي وسياسي لا يدفع إلا إليه، فالأحداث الدموية التي أتت على مئات الآلاف من القتلى ورغم مرور السنين عليها، تركت جراحا لا تندمل، وحتى حوادث المرور والزلازل والكوارث الكبرى التي شهدتها البلاد في السنين الماضية، لا يمكن أن تذهب دون أن يُؤرخ لها بشكل فني في غياب التأريخ العلمي الذي يتركها للنسيان، فلا تبق إلا جروحا عميقة في أذهان من عاشوها. ويبدو أن الموضوعة الرئيسية لهذه "الحشرجات" لم تكن معزولة أو جديدة في المتن السردي وحتى الشعري المعاصر الذي ولد من رحم مأساة الاحتلال ونيران الثورة التحريرية، إلى أن جاءت محنة جزائر التسعينيات التي كان حاضرة بشكل أو بآخر في هذه المجموعة.