التأمل في الكون ومجريات الحياة، حتى تلك اليوميات المزدراة، التي ينظر لها الكثير باحتقار، هي ما يمنحنا شيئاً من بصيرة، ويدُلنا على طرف خيط قد يكون حبل نجاة، يخرجنا من ظلمة التخبط والسير دون هدى في متاهات لا نهاية لها. الحضور للتأمل مسألة لا يمكن حدوثها، كونها فعلاً مستمراً لا نهائياً، لا خاتمة له. هي فعلُ سرمدي، يندك فيه المرء حتى نهاية حياته. وهو في ذات الوقت فعل تراكمي، بحيث تراكم المعارف بعضها البعض، وتبني رؤيتها الجديدة إما على مقدمات سابقة أتى بها أناس مضوا، أو على أنقاض أولئك الذين نعمل بسابق ترصد وإصرار على القطيعة معهم. وفي كلتا الحالتين، البناء أو النقض، فإن فعل التأمل هي شعاع نور من مصباح الإنسان الأول، وحتى آخر إنسان على هذا الكوكب. ذاتية التأمل حقيقة لا مناص منها، لأن التأمل ليس فعلاً جماعياً منظماً. صحيح أن النقاش والحلقات الفلسفية من شأنها أن تثري الأفكار، وتكون بمثابة مختبر لها، ولكن في النهاية هي تصقل السيف الذي هو سابق في الوجود لها. التأمل نزعة فردانية، تقود لتكوين رؤية فلسفية كونية، لها وظيفة "تظل دائمة فعلية وحاضرة. هذه الوظيفة هي ابتكار التصورات والمعاني المجردة"، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، والذي يعتقد أن "لا أحد يمكنه أن يقوم بهذه المهمة غير الفلسلفة". السبب الذي يجعل الفلسلفة وحدها القادرة على القيام بالدور الذي أشار له دولوز، راجع لقدرتها على الخروج من قوالب التفكير النمطية، سواء للعلوم الدينية مثل الفقه، أو القواعد المنطقية الكلاسيكية، أو حتى تلك التي يتبعها العلماء في العلوم التجريبية وفي مختبراتهم الحسية. ولذا، التفكير الفلسفي لا يمكن القبض عليه باليد، أو القول إنه هو، هنا، تام ومحدد بمقياس. هذا الابتكار للتصورات والمعاني، هو ما يمنح الإنسان قدرة على الفهم والتفسير أولاً، وتكوين نظريته الخاصة تالياً. أي تمنحه قدرة على المغايرة والتمايز عن الآخرين، واجتراح معانٍ مختلفة لذات المشكلات أو الأسئلة أو القضايا الوجودية التي هي محل نقاش أو تأمل لدى كثيرين. ولذا فإن "تاريخ الفلسفة.. مثل فن البورتريه، في الفن التشكيلي. إنها بورتريهات ذهنية، مجردة"، يقول دولوز، محاولاً تقريب المعنى، حيث إن التأمل في نفس المنظر، من ذوات مختلفة، سيعطينا تصورات ورسومات لا تتشابه، وتختلف، وإن كانت عن ذات الموضوع، وهنا تحضر أهمية التأمل في اجتراح هذا الاختلاف وتأكيده. عدم الوضوح الذي يخلقه التأمل في نظر الآخرين، أو وعورة الفعل الفلسفي، هي ما يجعل البعض يعتقد أن الفلسفة فعلٌ انعزالي، فيما هي "علاقة أساسية وإيجابية مع من هم ليسوا فلاسفة"، كما يؤكد جيل دولوز، ولا أدل على وجود هذه العلاقة مع المودة التي ابتنت بين مارتن هيدغر ومجموعة الفلاحين البسطاء الذين عاش معهم، وهم أولئك الذين لا تربطهم بالفلسفة أي وشيجة أو دراية. إلا أن الرؤية الفلسفية العميقة التي امتلكها هيدغر، هي ما جعلته يردم الهوة الساحقة بينه وبين مربي الماشية، ليكون له هؤلاء أقرب روحياً من مدرسي الجامعات وأساتذتها. التأمل إذاً، هو القيمة التي نفتقدها كأفراد في مجتمعاتنا المعاصرة، وهو ما أسس لكل هذا الخواء، وأوجد هذا السديم، فلم نعد نسمع إلا العُته من الكلام، والبائس من حديث، وما ليس له أي بعد معرفي أو وجودي من أفكار، من أناس يظنون أنهم قبضوا على ناصية العلوم، وجعلوها طيعة رهن بنانهم المكسور!.