«لماذا لم يدقّوا جدار الخزان؟! هل وصل تمسّكهم بحلم الحياة حد التضحية بها، أم أن فقدان الحياة أسهل من فقدان الأمل!». هكذا كتب رائد القصة القصيرة العربية، ابن عكا، غسان كنفاني، في 1963، في سياق روايته «رجال في الشمس» التي تحكي رحلة معاناة ثلاثة فلسطينيين خلال تهريبهم من العراق إلى الكويت داخل خزان مياه على ظهر شاحنة نقل. المجموعة الكاملة لأعمال غسان كنفاني تقع على مرمى اليد من رفوف مكتبتي في واشنطن، خلافاً لحال كتبي على رفوف مكتبة دمشق، والتي يبدو أنها أصبحت بعيدة المطال أو مستحيلته! فمجموعة غسان هي هدية أخيه مروان كنفاني حين كان مستشاراً للرئيس ياسر عرفات في واشنطن وقد ربطت عائلتينا صداقة وثيقة. داهمت ذاكرتي اليوم رواية كنفاني بعنف يكاد يوازي عنف المشهد الذي تناقلته شاشات الأقنية التلفزيونية العربية والعالمية يوم الخميس في 26 آب (أغسطس) 2015، أي على مسافة نصف قرن من زمن كتابة غسان روايته التخييلية. تابعت على الشاشة بشعور غامض ينوس بي بين الخيال المرّ من بنات فكر غسان، وواقع هو الأمرّ لمصير 71 مهاجراً سورياً قضوا في شاحنة مركونة إلى ناصية الطريق السريع في النمسا على بعد ما يقارب العشرة كيلومترات من العاصمة فيينا. مهاجرون رجال ونساء وأطفال كان باب الشاحنة مغلقاً بإحكام عليهم، تُرَكُوا لحتفهم بعدما هجر السائق شاحنته وفرّ بما جمعه من أموال المهاجرين السوريين وما بدّده من أيامهم وأحلامهم. الحادث جلل، هزّ كيان العالم، ودفع الحكومات الأوروبية إلى التداعي لعقد مؤتمر طارئ لتدارس الحلول لأزمة اللاجئين غير المسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إلا أن السؤال الواجب هنا في سياق البحث عن حلول ناجعة لهذه الأزمة الإنسانية الجارحة: من وما هو السبب المباشر في هذه الهجرة الجارفة للسوريين الملاحقين بشبح الموت يتبع خطاهم نحو الشمال؟ وهل علاج الأزمة يكمن في إيجاد مسكّنات موقتة للألم أم في استئصال الأسباب؟! ما لا جدال فيه أن النظام السوري، بما فيه رأسه بشار الأسد، لم يعد قادراً لا على وقف الحرب ولا على إعلان السلم. وهذا الأمر ليس مكابرة ولا مبالغة ولا تمويهاً، إنه الحقيقة الجائحة كداء عضال، تعيشها دمشق ومدن «سورية المفيدة»، كما يحلو للنظام تسمية المناطق التي لم يفقد السيطرة عليها وتمتدّ من دمشق جنوباً مارّة بحمص وخمال وطرطوس واللاذقية، وذلك اقتباساً من مصطلح جاء به الانتداب الفرنسي في الأربعينات متزامناً مع مشروعه لتقسيم سورية الواقعة تحت سلطته حينذاك. فمن يقبض فعلاً على لجام قرار الحرب والسلم في سورية اليوم؟! سألتُ وزير الخارجية الأميركي جون كيري في الاجتماع الأخير في مكتبه بالخارجية: إيران تحتل فعلاً سورية وأنتم تتحدثون عن مفاوضات، فمن تريدنا أن نفاوض، أطراف النظام السوري أم قاسم سليماني؟! هذا كان في آذار (مارس) 2015، ولم يجبني الوزير كيري يومها جواباً واضحاً ومباشراً. لكنْ قبل أيام جاءني الجواب اليوم من الزبداني حيث أعلن مقاتلو المعارضة عن فشل مفاوضاتهم مع ممثلي الميليشيات الإيرانية إثر انكسار الهدنة الهشّة التي لم تصمد ساعات. ذاك التراخي والتغاضي الدولي الذي أبداه العالم المسمّى «حرّاً» وفي مقدمته حليفة المعارضة السورية، الولايات المتحدة الأميركية، هو ما شرّع القبضة الإيرانية للإطباق على القرار السياسي الدولي والمستقبل السوري في آن، وهو ما يجب تغيير وجهته كي يتوقف النزيف البشري للجوء السوري والذي سلكت خواتيمه كل أشكال الموت العنيف المتخيلة من الموت غرقاً إلى الموت اختناقاً إلى الموت جوعاً وعطشاً. ومن اللافت أن التخبط السياسي الأميركي خلال ما يقارب الخمس سنوات من عمر الأزمة السورية دعا المبعوث الأميركي الخاص والجديد إلى سورية، مايكل راتني، إلى التوجّه فور تولّيه منصبه إلى روسيا محاولاً دفع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، للضغط على طهران بغية تغيير موقفها المتشدد لجهة استمرار بشار الأسد في الحكم، وكذا موقعه في المرحلة الانتقالية، وذلك بهدف إخراجه ومعه من تلطخت يداه بدم السوريين من دائرة الحكم في سورية الجديدة. سعي السيد راتني مشكور، إلا أنه جاء متأخراً وهجيناً. فهذا الضغط كان ليصحّ ويؤتي ثماره لو أنه تم قبيل توقيع الاتفاق النووي مع طهران. فالطرفان كانا متهافتين على تمرير الاتفاق بأي ثمن، وكانت تلك فرصة أميركا الأخيرة في الضغط على طهران لإيجاد مخارج من العقدة السورية التي غدت وزراً قد لا يتحمله بعد اليوم الضمير البشري. يقول غسان كنفاني معلناً نهاية رجاله في الشمس: ما فائدة أن تحلم وتحلم بالحياة الهانئة إن كان سعيك يكلفك حياتك نفسها؟!