×
محافظة المنطقة الشرقية

عام / أمير المنطقة الشرقية يرأس الاجتماع الأول لمجلس إدارة الهيئة العليا لتطوير المنطقة

صورة الخبر

صدر عن «مؤسسة الفرقان» في لندن كتاب «رحلة الرحلات، مكة في مئة رحلة مغربية ورحلة» في جزءين، من تأليف العلامة المغربي الراحل عبد الهادي التازي. ويرى المؤلف أن الحج أكبر وأهم مؤسسة قدمها الإسلام للمسلمين أينما كانوا، بما تشتمل عليه من تنوع... «كان الحج أبرز رسالة موجهة إلينا لمعرفة الآخر، ولاكتشاف الحضارات، مهما كتب الناس سواء المسلمين أم غير المسلمين، فإنهم لن يصلوا إلى استجلاء جوانب هذه المؤسسة الحضارية الكبرى كافة». والمؤلف يشير إلى أن الحج لا يحتاج هنا إلى التذكير بما زودنا به هذا الركن من أركان الإسلام من ثروة فقهية نادرة المثال وعشرات النوازل، ومئات الحالات التي كان على الفقهاء أن يجدوا لها حلولاً تتناسب وأهداف المشروع. ثقافة الحج وحدها تعبّر عن فكر خلاق تجلى في ما قدمه الفقهاء لنا سواء أكانوا ينتسبون إلى هذا المذهب أم الى ذاك، أم ينتسبون إلى هذه المدرسة أو تلك، بخاصة عندما يمتزج الجانب الفقهي المتعلق بالحج بالجوانب الأخرى المتعلقة بالأسفار وآدابها وقضايا الإيجار، والعلاقات بين الرجل والمرأة في هذه الفترة، ثقافة الحج التي تتضمن في صدر ما تتضمنه ضبط تلك العلاقات في أثناء الحج والتدريب على تحمل المتاعب ومواجهة المصاعب وتخليق الممارسات. وذكر التازي أن تشريع الحج خلق للمسلمين عموماً، وللمغاربة خصوصاً، مرجعية مهمة لثقافتهم وعلمهم، ومن هنا كانوا يعتزون بالسند الذي يعودون به إلى بلادهم وهم يرددونه في مجالسهم. ويضيف: «كان المغاربة يعودون بحمولة مهمة من الزاد العلمي والمعرفي، وكانت مكة المكرمة بالنسبة إليهم المرجعية التي يشعرون إزاءها بوجدانهم وآمالهم». سنقرأ في روايات الحجاج وفي رحلات العائدين ما يؤكد لنا مدى إيمان المغاربة بصدقية تلك المرجعية التي تعني فضاء عاش فيه نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) وصحابته وخلفاؤه وعلماء الإسلام من مختلف جهات الدنيا. كان الحجاج يعودون وهم يحملون معهم ذكريات وإفادات، ينقلونها إلى المجتمع الذي ينتسبون إليه، هذا المجتمع الذي يستفيد من تلك المعلومات للاسترشاد بها والاستئناس بها وإشاعتها. كانوا ينقلون بعض اللقطات التي يجب ألا نمر عليها مرور الكرام بوصفها دالة هادفة، وأحياناً مسلية أيضاً. ولنتصور أحد الذين كتبوا رحلتهم في العصر الوسيط، العبدري الحيحي، الذي يلاحظ أن أحد الحجاج من الذين التقاهم مصادفة كان معوق النطق بحرف الكاف، ينطق به همزة، عوض أن يقول: (لبيك اللهم لبيك) بالكاف يقول: (لبيأ اللهم لبيأ) بالهمزة! ويمضي الفكر بالذين يسمعون عن هذه اللقطة في المغرب، ليتصوروا ذلك وهو يتلو آية شريفة تحتوي على سطرين اثنين وتشتمل على ستة عشر حرف كاف: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ» البقرة :151-152. في «مئة رحلة ورحلة»، يتحدث كل حاج بما كان يعتقد أنه مقصده، وبما كان يهتم به هو في خاصة نفسه، هذا مهتم بمن يلقاه من الرجال، وذاك مهتم بالمنشآت المعمارية، وهذا مهتم بالطبيعة وألوانها، وآخرون اهتموا بالمخالفات والمنكرات التي شاهدوها وأنشدوا معنا قول المعري: سَبِح وصَلِ وطُف بمكة زائرا/ سبعين لا سبعاً فلست بزائر/ جهل الديانة من إذا عرضت له/ أطماعه لم يلف بالمتماسك». هؤلاء اهتموا بأحوال الحكم في البلاد، وتعاقب الحكام على الكرسي بما يصحب ذلك من مماحكات ومواربات، وهؤلاء بأحوال الأوبئة والمناخ والجو حتى قرأت عن بعضهم رصد خسوف القمر على سماء مكة المكرمة مما أقرأه في كتاب يتعلق بتاريخ مكة المكرمة! وإذا كان بعض الحجاج من إخواتنا في المشرق قد تألقوا في كتابة رحلاتهم سواء كانوا عجماً أم عرباً، فإن الحجاج المغاربة بزوا زملاءهم كماً وكيفاً وهكذا توفرنا على العشرات والعشرات من الرحلات المغاربية المكتوبة، فيها المقتضب وفيها المسهب، وفيها المنثور والمنظوم، والفصيح والعامي على ما سنرى، وما كان حديثاً يفترى! ولقد كان كرتشكوفسكي على حق عندما لاحظ أن المغاربة أحرزوا درجة السبق في أدب الرحلات، وهي الحقيقة التي أبرزها الراحل الشيخ حمد الجاسر عندما كان في كل مناسبة يشيد بالتفوق المغربي في هذا الصدد. يذكر التازي لنا أسطورة الحاج المغربي الفقير الذي عثر على صرة ثقيلة من المال في منعرج من منعرجات مكة المكرمة، فحملته أمانته على أن يسلمها إلى المسؤولين الذين أخذوا عنوانه، ولكن ليبحثوا عنه بعد فترة من الوقت ليسلموه الصرة، لأن صاحبها لم يظهر؟ وهكذا أصبح الحاج المسكين بين عشية وضحاها من أغنى أغنياء بلدته، غير أنه لم يقلل من ذلك الغني أن يقتني هذا الإنسان عقاراً كبيراً في بلدته ليحبسه على فقراء مكة المكرمة! وكيف نفسر وجود فخذة بكاملها من قبيلة بني زروال تحمل اسم بني مكة؟! والحديث عن عطاءات المغرب إلى تلك البقاع مسجل في كل حجج الوقف عندنا قديمها وحديثها، ومعرف في كل المراسلات التي تتصل بركب الحاج. والمهم هذا حقاً أن نقف على جميع الأسماء التي كانت تتوصل كل موسم بالمبالغ المرسلة إليها مما يعطينا فكرة دقيقة عن أسماء الأسر المقيمة في الحرمين الشريفيين اسماً اسماً. لوائح العلماء ولوائح الخطباء والأئمة وعبيد الحرم (الأغوات) وخدمة عين زبيدة، وخدمة الحرم ومصالح الحرم، وسراجي الأروقة الأربعة وسراجي منائر الحرم وشيالة القمائم، وكناسي الحرم، فراشي مقامات الحرم والجبادين وببئر زمزم، والبوابين بأبواب الحرم، وحاملي مبخرة باب الكعبة (حامل شمع باب الكعبة)، وحاملي أعلام الخطيب، وكناسي ما بين الصفا والمروة، ومؤذني جبال مكة وخدمة مشاهد مكة، ومعلمي الصبيان من الرجال والنساء... عالم كبير من الموظفين والأطر نجد تفصيل الحديث عنهم في الرحلات المغربية. والطريف أن كل هؤلاء الأطر بمن فيهم يؤذنون على رؤوس الجبال نعرف أسماءهم وأسماء أسرهم على ما نجده في السجلات المحفوظة. هذه خصائص لا يمكن أن نجدها في رحلات أخرى ما قرأنا عنها في المشرق، وهذا ما يؤكد حال الخصوصية بالنسبة إلى المغرب أو يؤكد مرة أخرى ما دعونا إليه من ضرورة عودة المؤرخ في الجزيرة العربية إلى ما سجلته الرحلات المغربية عن مكة المكرمة والمدينة المنورة وعن «الأطر» التي كانت تقوم عليها مختلف الوظائف الدينية، ومرافق الحياة في تلك الديار المقدسة ما كان يقوم به الحجازيون والمجاورات. وهكذا تحتوي الرحلة المغربية مثلاً على شمولية الموضوعات المطروحة من جهة، وهي من جهة أخرى لكونها رحلات متتابعة متوالية متلاحقة – تغطي سائر فصول السنة- ففيها ما كان يتم في الصيف وفيها ما كان يتم في الشتاء أو الربيع أو الخريف، ومن ثمة فقد كنا على خبرة من حالة البلاد الحجازية على طول الفصول الأربعة. إن كثيراً من المعلومات والإفادات ما كان لها أن تعرف من خلايا ما قرأناه في تواريخ مكة المكرمة والمدينة المنورة لولا رجوعنا إلى ما حررته أيادٍ مغربية ونقلته إلى الجناح الآخر من دار الإسلام، ما يعني أن تاريخ ذلك الإقليم يوجد - كما قلنا- موزعاً في أقاليم أخرى، ومن أبرزها وأهمها بلاد المغرب الكبير، بما فيها الأندلس وطرابلس وتونس والجزائر وموريتانيا وغرب أفريقيا عموماً.