ما عاد ممكناً تجاهل الهجرة المتزايدة للشبان العراقيين إلى البلدان الأوروبية وأميركا، فإن كانت قبلاً ظاهرة عابرة أو رغبة شخصية، أصبحت اليوم ظاهرة واسعة النطاق ومقلقة . دوافع الهجرة قد تتعدد حسب ظروف الساعين اليها، لكن طابعها العام هو شعور الشباب بأن مستقبلهم في العراق لم يعد مطَمْئناً وأن عليهم البحث عن حياة أفضل في بلدان أخرى . قبل عشر سنوات كانت الهجرة معاكسة، إذ كان العراقيون في المَهاجر يعودون إلى بلدهم ويؤسسون لحياة جديدة، لكن الصورة انعكست الآن واصبح أهل الداخل الذين صمدوا طوال ثلاثة عقود وقاسوا ظروفاً صعبة يسعون إلى المغادرة بشتى السبل . قد تبدو أسباب الهجرة واضحة للبعض، باعتبار أن الحياة في البلدان الغربية أفضل من العراق، لكن هذا التفسير لا يكفي لأن الإنسان يبقى يفضل بيئته التي نشأ فيها على البيئات الأخرى إن كان الحد الأدنى للعيش الكريم متوفراً فيها . من الضروري إذاً البحث عن الأسباب الحقيقية التي تدفع الشبان إلى مغادرة البلد الذي شكل شخصياتهم وهويتهم الثقافية والوطنية . يجب التسليم بأن هوية المواطن العراقي منذ قيام الدولة عام ١٩٢١ مبنية على ركيزة واحدة هي القومية العربية لغالبية السكان، مع اعتراف خجول بوجود قوميات أخرى، وإنكارٍ شبه تام للتعدد المذهبي وغياب شبه كامل لمظاهر الإقرار بالتنوع الديني والمذهبي. ومع أن الهوية العربية للعراق حقيقة يؤمن بها العرب العراقيون على مختلف أديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، لكنها، ربما بسبب القسر الذي رافقها، لم تصبح بديلاً للهويات الفرعية الأخرى بسبب فرض الساسة العراقيين ومشكِّلي الرأي العام رؤاهم على المجمتع . الحرية الدينية بدأت تتقلص بعد سقوط النظام الملكي، مع فرض قسري للهوية العربية إلى درجة أن كثيرين من العراقيين، بدأوا يضيقون بهذا الفرض الذي اقترن بإلغاء الهوية العراقية التاريخية التي يعتزون بها. كما أن اقتران الهوية العراقية القسري بالهوية العربية أصبح مشكلة كبيرة خصوصاً في عهد النظام السابق الذي ألغى الهوية العربية، ومعها العراقية والإنسانية، عن معارضيه إلى درجة أنه كان يسقط الجنسية عنهم ويصادر أملاكهم و»يُسفِّر» معظمهم إلى إيران حصراً باعتبارهم ليسوا عراقيين، وقد طال هذا التعسف الشيعة تحديداً، من عرب وكرد، ما ولّد لديهم شعوراً بالتمسك بهويتهم المذهبية . وبعد سقوط النظام عام ٢٠٠٣، طغت الهويات الفرعية المكبوتة سابقاً على الهويتين العراقية والعربية ما أدى إلى ضعف الهوية الوطنية ومعها ضعف الدولة التي أصبحت حكوماتها تتشكل وفق مبدأ المحاصصة بين الطوائف والقوميات. فقد شعر العراقيون غير المنتمين إلى حزب أو مجموعة بالضعف، واضطر كثيرون منهم لأن ينتموا حتى ولو شكلياً إلى جهة سياسية، أو يتمسكوا بالطائفة أو القومية كي يضمنوا الحماية والبقاء. إلا أن ضعف الهوية والاحتراب الذي اندلع بين جماعات عرقية ودينية وقدوم الجماعات الإرهابية إلى العراق واشتداد هجماتها على سكانه قد جعل الحياة صعبة على كثيرين، كما جعل شباناً كثيرين يشعرون بأن لا مستقبل لهم فيه وأن عليهم التوجه إلى البلدان المستقرة للتأسيس لحياة جديدة. لم تعد الهوية الوطنية مهمة بالنسبة إليهم، فقد تمزقت وضعفت وتشتتت على مدى أربعة عقود من التعسف والقسر وانعدام الاستقرار، فأصبح الاستقرار والمستوى المعاشي هو المحدد الأول والأخير للفرد العراقي . الجماعات والأحزاب السياسية الدينية والمذهبية والقومية أصبحت تتصارع، وإن سلمياً، في شوارع العراق، خصوصاً في العاصمة بغداد، وكل منها يحاول أن يفرض أيديولوجيته وشعاراته وصور زعمائه الروحيين والسياسيين والعسكريين، السابقين والحاليين على باقي الناس. امتلأت الشوارع بالصور. صور الأحياء والأموات. صور الزعماء الدينيين والسياسيين والعسكريين. صور عملاقة لشعارات الأحزاب والمليشيات وشهدائها. أعلام سوداء وخضراء وحمراء بلا عدد، منتشرة في الشوارع وعلى سقوف الأبنية وواجهاتها. تسجيلات صاخبة في الشوارع والمقاهي والمطاعم والسيارات والمساجد والمراكز الدينية. اعتداءات متواصلة على النوادي الاجتماعية وأماكن الترفيه على أيدي جماعات » مجهولة » . مضايقات للشبان والشابات في الجامعات ومحاولات حثيثة لفرض نمط معين من الأخلاق والعقائد عليهم ومنع أو عرقلة النشاطات الفنية بحجج كثيرة . وقد صاحب ذلك غياب لدور السينما والمسارح والحدائق والمتنزهات والمسابح والنوادي خصوصاً خارج العاصمة، وانتشار البطالة والمحسوبية بحيث لا يستطيع الشاب أن يحصل على عمل إن لم يكن له داعم سياسي أو ديني أو عسكري، ما اضطر كثيرين منهم لدفع الرشوة مقابل الحصول على عمل. وإن حصل الشاب على وظيفة فإن راتبه لا يكفي لأن يؤسس عائلة. تدهور الأمن وتردي الخدمات وتفاقم أزمة السكن واضطرار الشبان إلى البقاء في بيت العائلة فرضت قيـوداً إضافية على حرياتهم كل هذا وغيره دفع الشبان لأن يبحثوا عن بديل، والبدائل متوافرة في عالم اليوم الذي ربطته وسائل الاتصال والإعلام وقرّبت فيه البعيد. فأخذ الشبان يقدمون على الهجرة وإن انطوى ذلك على مغامرة خطيرة. إن أرادت الطبقة السياسية العراقية أن توقف مد الهجرة، كان عليها أن تعالج أسبابها وأن تبدأ بالممكن، وأوله حماية الحريات والحقوق والسماح للشبان بممارسة حياتهم وفق ما يرونه مناسباً حتى وإن رآه البعض مخالفاً للسائد. يجب حصر النشاطات الدينية في أماكن العبادة وعدم نقلها إلى الشوارع التي هي ملك للجميع. كما يجب تنظيم المناسبات الدينية بحيث لا تتسبب في تعطيل الحياة كما يحصل حالياً، ما يجعل كثيرين يفكرون بالمغادرة . يجب ألا تتردد الدولة في حماية الحريات العامة من التعسف الذي يمارسه البعض باسم الدين أو المذهب لأن عواقب التعسف ستكون وخيمة على مستقبل العراق . وأمام رئيس الوزراء حيدر العبادي مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة، خصوصاً أنه يحظى بدعم جماهيري وديني وتأييد سياسي لم يسبق أن حصل عليه زعيم عراقي منذ عقود . هجرة الشبان دليل صارخ على رفضهم الأوضاع السائدة، ولا يمكن إيقاف الهجرة من دون تغيير جذري لهذه الأوضاع وانخراط الشبان في بناء دولة عصرية عمادها القانون والإنصاف والحريات .