بغض النظر عمّن الفائز الأكبر في الاتفاق النووي الموقع بين إيران والدول الكبرى قبل أيام؛ فإنه من المؤكد أن الصعوبات الاقتصادية التي واجهتها طهران جراء العقوبات الدولية المفروضة عليها منذ سنوات، كانت واحدة من العوامل التي دفعتها لتكون أكثر جدية ورغبة للتوصل إلى اتفاق، ولو مرحلي، مع القوى الدولية بشأن برنامجها النووي. صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية الشهيرة، والمختصة بالشأن الاقتصادي، كانت قد نشرت قبل انطلاق المفاوضات تقريرا من داخل إيران حول الوضع الاقتصادي، حمل في مضمونه رسالة مفادها أن الاقتصاد الإيراني "على شفا الانهيار"، والطبقة المتوسطة بدأت تتفكك. وتضمّن التقرير حوارا مع مواطنة إيرانية تدعى هدى وتعمل سكرتيرة، وزوجها خبير كومبيوتر، وحينما سئلت عن وضعهما الاقتصادي كانت الإجابة: "لم أشعر أبدا بأنني أقع تحت هذا الضغط المالي خلال 15 عاما من حياتي الزوجية. كما ترى الثلاجة فارغة، وأنا وزوجي نتخلى عن احتياجاتنا، بل أحيانا عن الدواء، ونركِّز فقط على تعليم وإطعام وصحة ابنتنا". وارتفع معدل التضخم الرسمي في إيران إلى 44 في المائة، في حين أن الرقم غير الرسمي 80 في المائة، كما بلغ عجز الميزانية 28 مليار دولار، وهو رقم غير كبير، لكن إذا تذكرنا أن إيران أحد المنتجين الرئيسين للنفط في العالم، وأن سعر برميل البترول يتجاوز حاليا 100 دولار؛ فإننا ندرك معنى وخطورة العجز الراهن في الميزانية. وقال لـ «الاقتصادية» الاقتصادي الإيراني، وأستاذ مادة الاقتصاد في "لندن سكول أوف إيكونومي"، الدكتور فرهاد غول: "بصرف النظر عن الأسباب السياسية التي دفعت الغرب للتوصل إلى اتفاق نووي مؤقت مع طهران؛ فالمؤكد أنهم منحوا النظام الإيراني قبلة الحياة الاقتصادية". وأضاف بالقول: "بعيدا عن الضجيج الإعلامي، الذي يُصوِّر إيران كدولة قوية؛ هذا كله محض أوهام، فالأوضاع الاقتصادية في طهران مزرية، وكل المقومات الاقتصادية للدولة تذهب لخدمة الحرس الثوري والمؤسسة العسكرية، لإنتاج أسلحة مشكوك في قدرتها". وتابع، أن ما يُروج له من أنشطة صناعية تنفذها إيران، لتصنيع سلع كالثلاجات والغسالات وبعض أنواع السيارات؛ فأكد أن هذا "محض خداع"، وقال: "إنها سلع رديئة لا يوجد لها سوق حقيقي على المستوى العالمي، ولا تستطيع الصمود في مواجهة المنافسة، وأقصى ما سيستطيع النظام الإيراني القيام به هو مواصلة السياسة التصديرية الراهنة، ببيع هذه السلع الرديئة للعراقيين وبعض البلدان الإفريقية". لكن الدكتور فرهاد أكد أن الوضع الاقتصادي للمواطن الإيراني سيشهد "تحسنا نسبيا" في الفترة المقبلة، وقال: "إذا تم تخفيف العقوبات الدولية على إيران، سواء بمنحها بعض من أرصدتها المجمدة، وشراء البلدان الغربية النفط منها؛ فإنه سيتحقق لديها سيولة مالية ستستخدمها في تمويل الاحتياجات الاستهلاكية للطبقة المتوسطة، لتخفيف حدة الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي". ونظرا لتراجع العملة الإيرانية الريال بسبب العقوبات، فإن الاتفاق النووي انعكس سريعا على قيمة الريال الإيراني الذي تحسن نسبيا، وبلغت نسبة ارتفاع قيمته نحو 3 في المائة؛ ونظرا لأن قيمة الريال تدهورت في السنوات الماضية، فإن إيران اعتادت أن تدفع أكثر للاستيراد من الخارج، بينما شجع انخفاض قيمة العملة الإيرانية بعض البلدان الفقيرة على استيراد احتياجاتها من طهران، لانخفاض قيمة السلع الإيرانية مقيّمة بالدولار. لكن ارتفاع قيمة العملة الإيرانية قد يغير المعادلة السابقة، فالإيرانيون يستطيعون الآن استيراد مزيد من السلع والخدمات يدعمهم في رفع قيمة عملتهم الوطنية، أي زيادة قدرتها الشرائية، لكن هناك وجهين للعملة؛ أحدهما التأثير السلبي الذي سيطول الصادرات الإيرانية، لأن تحسن قيمة الريال يعني ارتفاع أسعار الصادرات الإيرانية، ما قد يدفع بعض الدول المستوردة منها، مثل العراق، للبحث عن بدائل أخرى، خاصة إذا تحسن الأفق السياسي بين أنقرة وبغداد. واعتبرت الباحثة الاقتصادية في المعهد الدولي للأبحاث الاستراتيجية، جيني هيل، في تعليق نشرته في صحيفة "صاندي تايمز" البريطانية، حول الآثار الاقتصادية للاتفاق النووي على الاقتصاد الإيراني؛ أن الفائز الأكبر فيما حدث ليس قطاع النفط، بل النظام المصرفي في إيران. وقالت هيل: "عندما توقفت واشنطن منذ عقود عن شراء النفط الإيراني، لم تتأثر طهران كثيرا، فقد كان بمقدورها بيعه لبلدان أخرى، لكن عندما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على إيران، وامتنع عن شراء النفط منها، تلقى النظام الاقتصادي الإيراني ضربة موجعة للغاية، ليس فقط لأن الإيرانيين خسروا مشتريا رئيسا لنفطهم، بل لأن أوروبا تتحكم في العديد من الأنظمة المصرفية". وتابعت أن العقوبات الأوروبية حرمت المصارف الإيرانية من أنظمة التسهيل المالي التي تمنحها المصارف العالمية، وهو ما وضع طهران في عزلة مالية دولية، وأصبح نظامها المصرفي في حالة اضطراب وضمور متواصل، وأضافت: "لكن الآن، إذا ما نجح الاتفاق، فإن النظام المصرفي الإيراني سينتعش ويندمج من جديد في النظام المالي العالمي". ومع هذا، فإن الصحافي المتخصص بالشؤون الاقتصادية في صحيفة "الإندبندنت"، كولن إدوارد، يحذر من الإفراط في التفاؤل تجاه الأوضاع الاقتصادية المستقبلية في إيران. متسوّقة بجوار نافذة متجر مستحضرات تجميل في طهران أمس الأول. إ.ب.أ ففي مستهل تعليق له حول الموضوع كتب قائلا: "بموجب الاتفاق المُوقَّع، ستحصل طهران على سبعة مليارات من أرصدتها المُجمَّدة، بينما ستتواصل العقوبات على قطاع النفط". وأضاف، أنه في دولة غارقة في المشكلات الاقتصادية، وعليها أن تُموِّل حلفاءها في العراق ولبنان، ومناطق أخرى من العالم، فإن مبلغ السبعة مليارات لن يكون كبيرا لإحداث انتعاش اقتصادي حقيقي. وحول السبل التي سيلجأ إليها الاقتصاد الإيراني للتعامل مع التطورات الجديدة، قال إدوارد لـ «الاقتصادية»: «العقوبات مثلت للإيرانيين عاصفة هوجاء ضربتهم بعنف، فالعملة تتراجع بشدة، والتضخم يتفاقم ويكاد يخرج عن السيطرة، والبطالة تواصل ارتفاعها، والطبقة المتوسطة تتحول من استهلاك اللحوم إلى الخضروات». وتابع: "رفع العقوبات عنهم بسرعة سيمثل عاصفة أخرى، لربما يفشلون في التعامل معها؛ فسنوات العقوبات عزلتهم كثيرا عن التطورات الاقتصادية العالمية، وعملية نسج علاقات اقتصادية وتجارية مع القوى الدولية الفاعلة، وكذلك بلدان الجوار الإقليمي؛ تتطلب الثقة وفترة زمنية تسمح بذلك". ومنذ توقيع الاتفاق المبدئي، ركزت وسائل الإعلام البريطانية على مناخ التفاؤل الذي ساد الطبقة المتوسطة الإيرانية، على أمل أن يفتح لها ذلك نافذة تمثل متنفسا اقتصاديا. لكن صحيفة "الديلي ميل"، المعروفة بتوجهاتها اليمينية، اعتبرت أن هناك مبالغة في درجة التفاؤل لدى الإيرانيين في حجم النفع الاقتصادي الذي سيحققونه من ذلك الاتفاق. واعتبرت الصحيفة أن هناك تعمدا من الصحف الحكومية في إيران بإيجاد أجواء إيجابية بشأن النتائج الاقتصادية لهذا الاتفاق المرحلي، وقالت الصحيفة: "النتيجة الإيجابية الرئيسة التي جنتها طهران من الاتفاق أن العقوبات الاقتصادية عليهم لن تتواصل، ومن ثم لن يتم تضييق الخناق عليهم ويزداد وضعهم سوءا". وأضافت: "بالنسبة لما سيحصلون عليه، فهو مبلغ بسيط لدولة بحجم إيران، إنها سبعة مليارات دولار، ولن تحسّن الأداء الاقتصادي المنهار في إيران. إن القيادة السياسية تعلم تماما أن الوضع الاقتصادي لن يتحسن، إلا إذا كوّنت علاقات اقتصادية وتجارية قوية مع البلدان الغربية والإقليمية، وهذا يتطلب إجراءات طويلة من الثقة". وكان سفير بريطاني سابق في إيران، قد صرّح لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" بالقول: "الإيرانيون يعلمون تماما، أن عملية رفع العقوبات الاقتصادية عليهم ستأخذ وقتا طويلا، كما أن إعادة دمجهم في المنظومة الاقتصادية العالمية سيتطلب سنوات طوال". إلا أن وجهة النظر تلك، لا تجد قبولا كبيرا لدى الباحث في وزارة الخارجية البريطانية، والمختص بشؤون الشرق الأوسط، دافيد لوين؛ وقال لـ «الاقتصادية»: "القطاعات الشابة من المجتمع الإيراني قطاعات حيوية للغاية، وتتابع بدقة أحداث التغيرات في مجال التكنولوجيا، وهذه هي القطاعات التي يعول عليها روحاني للمساعدة في جذب الاقتصاد الإيراني للأمام". وأكد أن تخفيف أو خفض العقوبات سيسمح بتوفير سيولة مالية تساعد القيادة الإيرانية على استخدام تلك الفئات الشابة، لإعادة دمج إيران في الاقتصاد الكوني، وقال: "الأمر سيتوقف على مدى استعداد المجتمع الدولي للقبول بسوق اقتصادية ضخمة مثل إيران". وفي ظل التقييمات المتباينة للانعكاسات الاقتصادية للاتفاق النووي الإيراني المرحلي على الاقتصاد؛ يشير البعض إلى أن مبلغ السبعة مليارات دولار لن تسلم لإيران دفعة واحدة، ومن ثم فإن تأثيرها الاقتصادي ستزداد محدوديته. فعلى طهران أن تستورد قطعا ومُعدَّات لصناعة السيارات بقيمة 500 مليون دولار من أمريكا، كما سيسمح لها أيضا باستيراد قطع غيار لأسطولها من الطائرات المدنية. ورغم أن الاتفاق يسمح لطهران بشراء ذهب من السوق العالمية، إلا أنه اشترط أن يكون ذلك مما لديها من رصيد من عملات أجنبية، وليس من المبلغ الذي سيفرج عنه. والمؤكد حاليا، أن هذا قد ينعش أسواق الذهب في كل من دبي وتركيا؛ فواردات إيران من الذهب زادت بشدة في العام الماضي وبلغت 1.5 مليار دولار من تركيا شهريا؛ حيث استخدمها الإيرانيون ملاذا آمنا من ارتفاع معدلات التضخم وتراجع الريال. لكن أغلب عمليات شراء إيران للذهب من تركيا كانت تتم عبر ما يُعرف بـ "تجار الشنطة"، ولا شك أن عمليات الشراء الإيراني للذهب ستزداد الآن، وهو ما يعد عنصر إنعاش للاقتصاد التركي. وسيسمح الاتفاق لإيران باستخدام مبلغ 400 مليون دولار لدفع مستحقات مالية لـ 8700 طالب إيراني يدرسون في أمريكا، ومن ثم فإن إيران لن تحصل على مبالغ نقدية مباشرة يمكنها استخدامها بشكل فعال. وقال الخبير في بنك لويدز البريطاني، الدكتور جون سنو، عن التبعات الاقتصادية للاتفاق النووي الإيراني: "إجمالي الأرصدة الإيرانية المحتجزة دوليا 100 مليار دولار، ولن تحصل طهران إلا على سبعة مليارات، وهذا مبلغ زهيد، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن العقوبات الدولية كلفت إيران 120 مليار دولار، وفي الأشهر الستة للاتفاق ستخسر إيران بسبب تواصل العقوبات الاقتصادية، خاصة في مجال النفط، نحو 30 مليار دولار". وأضاف: "أسواق النفط العالمية تعاملت بإيجابية مع الاتفاق، فالأسعار انخفضت بشكل طفيف، لكن ليس لاعتبارات اقتصادية، بل ردود فعل ناجمة عن شعور بأن الشرق الأوسط سيشهد مزيدا من الاستقرار". ويعتبر البعض أن قطاعات مُحدَّدة في الاقتصاد الإيراني، لربما تشهد تحسنا ملحوظا في الفترة المقبلة، ومنها قطاع السيارات؛ فرغم أن المؤشرات القادمة من شركات إنتاج السيارات الأمريكية حول تعاونها مع إيران اتسمت بـ "البرود"، حيث صرّح المتحدث باسم "فورد" بـ "أننا نتابع الوضع بدقة" فيما رفضت "جنرال موتورز" و"كرايسلر" التعليق؛ فإن "بيجو" الفرنسية رحبت بالتعاون المستقبلي مع طهران. وكانت "بيجو" قد باعت لإيران 457900 سيارة في عام 2011م في شكل قطع تم تجميعها في إيران، وهو ما جعل إيران ثاني أكبر سوق من حيث الحجم لسيارات "بيجو" بعد فرنسا، إلا أن المبيعات الفرنسية تراجعت العام الماضي إلى 145 ألف سيارة فقط. وإذا كان الاتفاق سيسمح بمواصلة تصدير إيران إنتاجها من النفط الخام، لكل من الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا وتايوان؛ فيجب التذكير بأن عدد الدول التي اعتادت استيراد النفط الإيراني قبل العقوبات كان 23 دولة وانخفض إلى ست دول فقط. وسيؤدي الاتفاق لرفع أوروبا حظرها على تأمين ناقلات النفط الإيراني إلى البلدان الستة التي تستورده، وهو ما قد يؤدي إلى انتعاش قطاع النقل البحري في إيران، كما يُتوقع أن ينتعش قطاع السياحة نسبيا، لإشباع فضول السياح الغربيين المتوقع زيارتهم لإيران، للتعرف عن قرب على هذا المجتمع. وأكد لـ «الاقتصادية» الدكتور فرهاد غول، أن الجميع يجعل من العقوبات الاقتصادية مبررا رئيسا لانهيار الاقتصاد الإيراني، "ولربما كان هذا صحيحا نسبيا"، وحتى في حال إزالة العقوبات، فإن غياب الكفاءة الاقتصادية في إيران، والفساد في الدوائر العليا لاتخاذ القرار الاقتصادي، وغياب الشفافية؛ ستظل حجر عثرة أمام تقدم اقتصادي حقيقي، وفقا لقوله.