تم التأكّد في شكل قاطع من أن روسيا أرسلت بضع مئات من الضباط والخبراء والجنود، إضافة إلى مزيد من الأسلحة والذخائر المتطورة، إلى قواعد عسكرية في سورية، لتنخرط في القتال إلى جانب نظام الأسد، مع ذلك اكتفت الولايات المتحدة بإطلاق تصريحات ملتبسة لا تشي بموقف حازم من هذا التطور. لقد دشنت الإدارة الأميركية منذ نحو عامين، إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، ترتكز على معطيات تدخلاتها العسكرية السابقة في المنطقة، والمتغيرات في سوق الطاقة التي خفضت أهمية الشرق الأوسط كثيراً، وانتهاء بوجود أوباما في المكتب البيضاوي وتكريسه شعار «حان وقت التغيير». العنوان الرئيسي للإستراتيجية الجديدة هو الانسحاب من قضايا وصراعات الشرق الأوسط البينية المعقدة، والبقاء على صلة غير مباشرة بالملفات الإستراتيجية وحسب، وعلى رأسها إسرائيل والنووي الإيراني والتطرف الإسلامي، وهي موضوعات مترابطة ومتشابكة بطريقة دائرية، يمكن في حال وصل بعضها بالبعض بطريقة مناسبة والمحافظة على توازنات القوى داخلها، الوصول إلى منطقة مغلقة صراعياً، وفي حالة إفناء قوى متبادل، بحيث تعجز عن تصدير أي تهديد نحو الغرب، وبالذات نحو الولايات المتحدة الأميركية. لكن بالنظر إلى كون روسيا هي الخطر الرقم واحد بالنسبة الى أميركا، وبوجود المغامر بوتين، وأحلامه القيصرية، وجدت مراكز بحثية وقيادات في الأجهزة الإستخباراتية أن لا مانع من السماح لموسكو بخرق تلك البيئة المغلقة، والتورط في ذلك المستنقع العقيم، بل تشجيعها والإيحاء لها بأن الولايات المتحدة تتخلى لها عن مسؤولياتها في تلك المنطقة، وتعطيها وكالة عامة لحلّ مشاكلها. تستدعي الولايات المتحدة بذلك درس التدخل السوفياتي في أفغانستان، وما أفضى إليه الصراع الدموي مع الإسلاميين الذين لعبوا دوراً بارزاً في انهيار الاتحاد السوفياتي وأغرق وريثته روسيا في صراعات مع مسلمي القوقاز لأكثر من عقد آخر من الزمان، مع فارق واحد، هو أن أميركا لن تكون مسؤولة اليوم عن إسناد أو دعم الطوق الناري الذي سيحاصر روسيا كما أيام الاتحاد السوفياتي: فمن أفغانستان إلى الخليج العربي إلى تركيا وسورية والعراق ولبنان، ستدور رحى المعركة ضد روسيا بالقوى الذاتية لأعدائها الذين سيصنعهم تدخلها لمصلحة نظام الأسد، والذين لن يكتفوا بإلحاق الخسائر بها في الشرق الأوسط، بل سيطاردونها إلى حدودها الجنوبية، وربما في عقر دارها أيضاً. وثمّة بضعة آلاف من القوقازيين يحاربون منذ سنوات في سورية والعراق، وأعينهم مشدودة إلى جبال بلادهم المحاذية لروسيا، يتحينون الفرصة للانتقام لغروزني وسواها من المدن والبلدات التي سحق الروس تمردها قبل نحو عشر سنوات. سيتيح التدخل الروسي المباشر الفرصة للولايات المتحدة للحلول محل روسيا في مجلس الأمن، أي اللعب النظيف ببطاقة الفيتو الحمراء، من دون تحمل أي تبعة فعلية، وسيصبح بوسعها اتهام روسيا بالعبث بالأمن والسلم العالميين، وحشد المواقف ضدها. أما حين تتلقى روسيا النكبات على يد المتشددين فإنها ستعلن عن مواساتها وتضامنها، بأحرّ وأبلغ العبارات الدبلوماسية، التي سينتقيها موظفو الخارجية بعناية من محفوظاتهم. ولكي تربح روسيا في ساحة الشرق الأوسط، فإنها ستقتطع جزءاً من النقاط من حساب حليفها الأول إيران، الذي سيغدو مع مرور الوقت منافسها، ثم لن يلبث أن يغدو خصمها مع تأزم المأزق الروسي واضطراره للتقرب من حلفاء آخرين، وبوجود أميركا الفاتحة ذراعيها لإيران بلا أنياب نووية، ستتباعد الشقة أكثر مع نظام الولي الفقيه بحكم المصالح السياسية التي لا تقهر. بعيداً من خرافة محاربة الإرهاب ودحره، وأوهام بوتين الإمبراطورية، لا يمكن المرء أن يعثر على فائدة واحدة لتدخل روسيا العسكري في صراعات الشرق الأوسط، حتى لو احتلت سورية وابتلعتها كما في أوكرانيا. فأي قوة ستحاربها من منصتها البعيدة تلك، والتي ستكون محاصرة بالأعداء من كل جانب؟ وماذا كانت تستفيد أصلاً من نظام الأسد حتى عندما كان قوياً وغير مكلف؟ وماذا عن مصالحها الخليجية والتركية؟ وهل كان النظام السوري أكثر من أداة ضغط على الدجاجة الإيرانية التي تضع بيضة ذهبية في سلة روسيا كلما أوشك بشار على السقوط؟ لا يحضرني وأنا أتخيل ما يفكر به الرئيس أوباما وهو يتابع مغامرات وحماقات نظيره الروسي، من استعراض عضلاته أمام الكاميرات، إلى خطواته الاستطلاعية على طريق التورط العسكري في سورية، سوى ذلك المثل الشامي الذي يقول: «الصبي الذي ليس من صلبك، كلما جنّ صفق له». لكن لا يسعني أيضاً أن أتخيّل سورية فيما لو وقع الدبّ الروسي في عش الدبابير الشرق الأوسطي، سوى أفغانستان أخرى، محطمّة ومدمّرة، وعالقة بين أنياب المتشددين على نحو لا يمكن الفكاك منه لعقود قادمة.