توقع مختصون وأكاديميون عالميون في مجال الاقتصاد أن تواجه الاقتصادات الناشئة أوضاعا اقتصادية صعبة خلال السنوات المقبلة، بعد أن كانت قاطرة النمو الاقتصادي العالمي، منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية في البلدان الرأسمالية عالية التطور عام 2008. ويؤكدون أن هذه الاقتصادات باتت الآن في حاجة إلى مساندة دولية لمساعدتها في تجاوز الظروف الصعبة التي تمر وستمر بها. وفي الوقت الذي تستعيد فيه الاقتصادات الأمريكية والأوروبية واليابانية عافيتها، فإن معدلات النمو في الأسواق الصاعدة تبدو في حالة تراجع، حيث خفض صندوق النقد الدولي أخيرا توقعاته بشأن نمو الأسواق الناشئة من 5.3 في المائة هذا العام إلى 4.2 في المائة، بينما بلغ هذا المعدل 7.4 في المائة قبل خمسة أعوام. وثلاثة من أكبر الاقتصادات الناشئة في العالم روسيا البرازيل وجنوب إفريقيا تعاني الكساد، إلى جانب ما حدث في الصين من هزة اقتصادية، وأدى إلى أضرار فادحة بعديد من الاقتصادات الناشئة في شرق وجنوب شرق القارة الصفراء. وخلال أسبوع واحد، تراجع مؤشر بورصات الاأواق الناشئة بنسبة 3.2 في المائة، وانخفض مؤشر جي بي مورجان لمؤشر عملات الأسواق الناشئة بما يقارب 1.4 في المائة، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ أسس المؤشر عام 1999. وأشارت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية في منتصف شهر آب (أغسطس) الماضي، إلى زيادة في معدلات خروج الاستثمارات الأجنبية من الأسواق الناشئة، وقدرت إجمالي تلك الأموال بترليون دولار أمريكي خلال الـ 13 شهرا الماضية. وهنا يثار تساؤل: إلى أي مدى تعزز تلك البيانات من المخاوف بأن الأسواق الصاعدة مقبلة على أزمة مالية تعيد إلى الأذهان الأزمة المالية التي ضربتها في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي؟ وردا على ذلك، اعتبر الدكتور توماس هيرتون؛ أستاذ التجارة الدولية سابقا والاستشاري في المفوضية الأوروبية، أن الوضع الحالي للاقتصادات الناشئة يتطلب إعادة النظر في نموذج التنمية الاقتصادية الذي اتبعته في السنوات الماضية، فيما حذر من العقبات الناجمة عن تراجع معدل الصادرات في الوقت الذي ترفع فيه قيمة الدولار الأمريكي. وأضاف لـ "الاقتصادية"، أن آخر البيانات المتاحة تشير إلى تراجع حصة الاقتصادات الناشئة من التجارة الدولية بنحو 3.3 في المائة خلال النصف الأول من العام الحالي، وبصرف النظر عن تقديرات "فاينانشيال تايمز بأن الأسواق الصاعدة خسرت ترليون دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فإن الرقم المؤكد أن المستثمرين الأجانب سحبوا 44 مليار دولار من أموالهم المستثمرة في سندات وأسهم الأسواق الصاعدة منذ منتصف شهر يوليو وحتى الأول من سبتمبر، والمتوقع أن يزيد هذا المبلغ بشكل كبير بمجرد رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة وبريطانيا". بيد أنه أوضح أن "القيادات الاقتصادية في تلك البلدان أضاعت إلى حد ما فرصة الإصلاح الاقتصادي خلال فترة معدلات النمو المرتفعة، وتراخت في إحداث تغيرات اقتصادية جذرية خشية التأثير في معدل النمو، لكنها الآن لن يكون أمامها غير القيام بعملية إصلاح هيكلي، ويمكنها الاستفادة من الفوائض المالية المتاحة لديها لتخفيض وامتصاص حالة الغضب الاجتماعي التي يمكن أن تنجم عن عملية الإصلاح في ظل ضائقة اقتصادية". من ناحيتها، استبعدت الدكتور آرنست ويكلي؛ كبير الباحثين في بنك إنجلترا، أيضا انفجار أزمة اقتصادية ضخمة في الاقتصادات الناشئة مشابه لما حدث في التسعينات. وأضافت لـ "الاقتصادية" أن "الوضع الاقتصادي في الأسواق الصاعدة رغم ما تعانيه من مشكلات حاليا، مختلف تماما عن وضعها قبل عقدين عندما اندلعت الأزمة المالية، فهي الآن تتمتع بحسابات جارية أكثر قوة مما مضى، وأقل اعتمادا على الديون قصيرة الأجل، ولديها أسعار صرف أكثر مرونة، ونحو 25 في المائة فقط من ديونها الحكومية واجبة السداد بالعملات الأجنبية مقابل 50 في المائة عام 2000، وتحتفظ باحتياطات مالية عملاقة إذ نمت احتياطاتها المالية من تريليون دولار عام 2003 إلى 7.6 ترليون حاليا وفقا لبيانات صندوق النقد، ومع هذا فإلى أي مدى يمكن أن تحافظ على تلك الاحتياطات، فإن الأمر سيتوقف على طريقة تعاملها معها". واتفق معها، الدكتور مارك بابز؛ المختص في الأسواق الناشئة والأستاذ في جامعة كمبريدج، لكنه طرح وجهة نظر أكثر تفصيلا في فهم الأبعاد المستقبلية للأسواق الناشئة، حيث صاغ مفهوما جديدا لفهم مستقبل الأسواق الناشئة يعتمد على ما يطلق عليه التباين النسبي في العلاقات التجارية بين تلك الأسواق ومراكز النمو الاقتصادي. وقال لـ "الاقتصادية"، إن "الاتجاه المستقبلي للأسواق الناشئة يرتبط بمقدار علاقاته الاقتصادية والمالية والتجارية مع مراكز النمو الكبرى، فالأسواق الناشئة في معظم بلدان أمريكا اللاتينية ستكون أفضل من مثيلاتها في جنوب شرق آسيا، ويرجع ذلك إلى أن أغلب اقتصادات أمريكا اللاتينية ترتبط عضويا بالاقتصاد الأمريكي، ولأن الاقتصاد الأمريكي في تحسن فإن الاقتصادات الناشئة في أمريكا الجنوبية في وضع آمن نسبيا، على العكس تماما الصورة في جنوب شرق آسيا، إذ اعتمدت تلك الاقتصادات في نموها خلال السنوات الماضية على الاقتصاد الصيني، ومع تراجع النمو الصيني ستتراجع قدرة الأسواق الناشئة على تحقيق معدلات نمو مرتفعة، ولربما تشهد أزمة مديونية إذا طالبت الصين تلك البلدان بسداد ديوانها" وربما تتفق تلك الرؤية نسبيا مع الأنباء الواردة من ماليزيا وإندونيسيا، حيث يتوقع أن تُجبر الشركات ذات المديونية الأجنبية، على طرح المزيد من الأسهم في الأسواق بأسعار مخفضة وإعادة هيكلة ديونها. وأشار تقرير حديث لمؤسسة ستاندارد آند بورز إلى أن أكبر 100 شركة في جنوب شرق آسيا، والتي توسعت خلال السنوات الماضية عبر الاستدانة بأسعار فائدة مخفضة، قد تضخمت ديونها بشكل كبير، وعلى هذه الشركات يقع عبء ثلث إجمالي ديون القطاع الخاص حاليا، مقابل 16 في المائة من إجمالي الديون عام 2011، علاوة على أن 40 في المائة من تلك الشركات المائة تشكل الديون بالعملة الأجنبية أكثر من نصف إجمالي ديونها، أي ضعف ما كان عليه الوضع قبل أربع سنوات فقط. ولهذا لا يتردد بعض الاقتصاديين في المملكة المتحدة من الإعراب عن قلقهم تجاه مستقبل الاقتصادات الناشئة، لكنهم يطالبون بتوخي الحذر عند إصدار حكم حول مصيرها خلال العقد الراهن على الأقل. من جانبه، قال البروفيسور ليمون كين من مدرسة لندن للاقتصاد والخبير في الاقتصاد، إن "الأسواق الصاعدة تقف الآن في منطقة وسط وتمر بمرحلة انتقالية جديدة، إذا انزلقت يمكن أن تقع في هاوية الكساد، لكنها أيضا ونتيجة لسنوات طويلة من الانتعاش الاقتصادي باتت تتمتع بتراكم نوعي في الخبرات الاقتصادية والقدرات المالية التي تجنبها الوقوع في تلك الهاوية". وأضاف، "أن يخرج من الأسواق الصاعدة نحو تريليون دولار خلال 13 شهرا ولا تتعرض لأزمة عنيفة، مؤشر على صلابة وضعها الاقتصادي الجيد نسبيا، لكن في الوقت ذاته هناك تراجع شديد في قيمة عديد من عملاتها وهذا مكمن الخطر، فتاريخ الأزمات الاقتصادية في الأسواق الناشئة يشير إلى أنها تبدأ في أسواق العملات، ثم تنتقل إلى أسواق السلع، ثم الديون، فالأسهم، وأخيرا تضرب الاقتصاد الحقيقي، والمظاهر الراهنة للأزمة تتشابه تماما مع تطور الأزمات السابقة". ولهذا تتصاعد الدعوات الدولية حاليا لتفادي اندلاع حرب عملات بين الاقتصادات الناشئة وخاصة في القارة الصفراء، إذ يمكن أن تفجر تلك الحرب ومع اتساع نطاقها أزمة مالية حادة في قارة آسيا، سيكون من الصعب تطويقها في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة في الصين، وعدم نجاح اليابان في الخروج من تعثرها الاقتصادي، وفشل القارة الأوروبية في تحقيق معدلات نمو مرتفعة، ولن يكون بمقدار الاقتصاد الأمريكي بمفرده العمل رافعة للاقتصاد الدولي، وخاصة أن الأزمة المالية إذا انفجرت في آسيا، فإن تمددها لتطول الاقتصاد العالمي ككل أمر مفروغ منه ولا جدال فيه.