تضمن التقرير الصحفي الذي نشرته "الوطن" مؤخرا، قيام وزارة الصحة بإصدار ستة قرارات إدارية، وذلك للحد من الفساد المالي والإداري بالوزارة، ومن أبرز هذه القرارات: قيام إدارة المتابعة بالوزارة بالإشراف على إدارات المتابعة بفروع المناطق والمحافظات، وتكليف مدير المتابعة بالمرافق الصحية بترشيح الموظفين وفق آلية معينة، إضافة إلى إعطاء استقلالية أكثر لمديري المتابعة في الفروع والمديريات. ومما سبق، يتضح أن وزارة الصحة تهدف من قراراتها تلك إلى تفعيل إدارة المتابعة من خلال توسيع صلاحيتها بالإشراف على الفروع، إضافة إلى رفع كفاءة منسوبي هذه الإدارة، لكن السؤال المطروح هنا: ما تأثير تلك القرارات على جهود مكافحة الفساد في الوزارة؟. قبل الإجابة عن السؤال السابق، من الضروري في البداية أن نتعرف على المهام الرئيسة لإدارة المتابعة، والإشكالات التي تواجهها على أرض الواقع، فقد حددت اللجنة العليا لإصلاح الإدارة عدة مهام للمتابعة في كل وزارة حكومية منها ما يلي: • تهدف إدارة المتابعة إلى منع وقوع الأخطاء والانحرافات داخل الجهاز الإداري للوزارة والقيام بعمليات التفتيش المفاجئ على وحدات الوزارة الإدارية والمالية للكشف عن الثغرات والمخالفات واتخاذ ما يلزم بشأنها. • مراقبة سير العمل في الجهاز والوحدات التابعة له للتأكد من مطابقته للأنظمة واللوائح والإجراءات المعتمدة. • القيام بإجراءات الرقابة والتحريات اللازمة في مختلف أقسام الجهاز، وما يرتبط به من وحدات للتأكد من سلامة العمل وترشيد الأداء. • متابعة سير أعمال الجهات المتعاقدة مع الجهاز وفق العقود المبرمة معه، وتحديد وتشخيص المعوقات التي تواجه تنفيذ المشروعات، وتحديد الانحرافات وتقديم الحلول والمعالجات المناسبة لها. والمهام السابقة في الحقيقة لإدارة المتابعة غير مفعلة في العديد من الوزارات الحكومية، ومن بينها وزارة الصحة نفسها، فقد أصبح دورها الأساسي يتمثل فقط في عملية الرقابة على حضور وانصراف الموظفين، وإجراء التحقيقات الإدارية التي يطلبها الوزير أو الرئيس الإداري. وليس هذا وحسب، بل إن بعض إدارات المتابعة في الجهات الحكومية، سحبت منها صلاحية الرقابة على الحضور والانصراف، خاصة بعد تطبيق نظام البصمة الإلكترونية، وإسنادها إلى إدارات أخرى تنفيذية مثل شؤون الموظفين، أما فيما يتعلق بالتحقيقات الإدارية فإن منسوبي إدارة المتابعة في الغالب ضعيفو التأهيل ولا يتم تدريبهم بالشكل المطلوب. هذا إضافة إلى أن إدارة المتابعة قد تكون مخترقة من قبل بعض كبار الموظفين بالرغم من ارتباطها التنظيمي بالوزير مباشرة، أو بالمسؤول في الجهة الحكومية، ونتيجة لهذا التدخل فقدت الإدارة استقلاليتها، وأصبحت أداة قمع بيد الرئيس أو المدير الإداري عند مواجهة خصوم الإدارة. ومما زاد في الطنبور نغمة، صدور اللائحة الموحدة لوحدات المراجعة الداخلية في الجهات الحكومية، والتي أصابت إدارات المتابعة في مقتل، وذلك لازدواجية المهام بين الإدارتين، والتي أدت إلى تهميشها حتى أصبحت المتابعة من إدارات المنفى البيروقراطي، والموظفون غير المرغوب فيهم لأي سبب من الأسباب، يتم نقلهم إلى هذه الإدارة، إما كعقاب مقنع أو مستتر أو الحد من صلاحيات بعض الموظفين. وتأسيسا على ما تقدم، فإن قرارات وزارة الصحة الخاصة بتفعيل إدارة المتابعة، هي في رأيي عبارة عن قرارات تنظيمية شكلية، وليست جوهرية، ولا تعالج الضعف الرقابي في الوزارة، وبالتالي عدم فعالية جهود مكافحة الفساد عموما. فوزارة الصحة ما زالت تنتهج الرقابة التقليدية القديمة، وكما يسميها خبراء الإدارة "مثلها مثل قائد السفينة، لا يمكن ولا يصح أن يترك عملية الرقابة حتى يكتشف أنه ضاع أو تاه، إنه يجب أن يتأكد أن سفينته في طريقها إلى الهدف المحدد لها بالكفاءة المطلوبة". وعلى هذا الأساس، هل تستطيع وزارة الصحة أن تعرف إذا كانت قد حققت أهدافها؟ وهل تستطيع أن تعرف المشكلات التي تعترض تنفيذ خططها على أرض الواقع؟ وهل تستطيع تشخيص مشكلاتها وبالتالي علاجها؟ كثيرا ما نسمع عن وجود اختلاسات مالية في المرافق الصحية، وعن وجود تلاعبات في العقود والمشروعات، غير الواسطات والمحسوبيات، وتردي الخدمات الصحية، كان آخرها خبر مباشرة سبع جهات رسمية التحقيق في مخالفات إدارية ومالية وجنائية رافقت إجراءات مكافحة فيروس كورونا. أستطيع القول إن الرقابة في وزارة الصحة هي رقابة بيروقراطية تعتمد على الإجراءات كأهداف رئيسية لها، كما تعتمد على هرمية السلطة والتوثيق الرسمي، ونظم المكافآت من أجل التأثير في سلوكيات الموظفين، ومن بين ذلك تفعيل إدارة المتابعة التي عادة ما تكون وظيفتها التفتيش على الحضور والانصراف في الإدارات الأخرى. وتأتي الرقابة البيروقراطية في وزارة الصحة في ظل تضخم الهيكل التنظيمي لها، ولعلي لا أبالغ إن قلت إن إدارة عامة واحدة تمثل وزارة بذاتها مع وجود آلاف الموظفين الذين يعملون بها، ناهيك عن المديريات والمستشفيات، فهناك إدارة التموين الطبي، وإدارة المختبرات، وإدارة المستشفيات.. الخ، وجميع هذه الإدارات تمارس الرقابة التقليدية القديمة، ولهذا فقدت وزارة الصحة التحكم والسيطرة، وما عادت تستطيع الإشراف على فروعها ومرافقها حتى داخل الوزارة نفسها! ولهذا حاولت الوزارة بأن تكون الرقابة لا مركزية في ظل التضخم الإداري والبشري، من خلال تفويض بعض الصلاحيات للمديريات والمستشفيات ووكلاء الوزارة، ولكن بأسلوب الرقابة القديمة أيضا، فاستفحلت الأمور، والوزارة لا تدري! هناك كميات هائلة وضخمة من التقارير والبيانات المالية والإدارية التي تصل إلى مكتب الوزير، من الوكلاء ومن المديريات ومن اللجان المختلفة، ولكن من يعلم ما مدى مصداقية هذه التقارير وإمكانية الوثوق بها؟.. هنالك خطط استراتيجية متعددة وخطط تشغيلية مرتبطة بها، ولكن من يعلم أن ما يحدث مطابق لما تقرر تحقيقه؟.. هناك حالات وقضايا فساد، ولكن من يعلم ما أسبابها وكيف حدثت؟ والإجابة عن الأسئلة السابقة تحددها معايير قياس الأداء في خطط الوزارة.. إن وجدت! وتقييم أنظمة الرقابة الداخلية بها.. إن تم القيام بها!.